Page 41 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 41

‫مذكرات سريعة لأحد أبناء جيل ‪ 6‬أكتوبر ‪1973‬‬

‫وبعدها صارت مصر رمًز ا من رموز التحرير الوطني ونموذًجا ُيحتذى‬         ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد عبد الغني‬
‫في التحرر من هيمنة القوى الاستعمارية الغربية في أنحاء العالم‪،‬‬
‫وتزعمت حركة "عدم الانحياز" عام ‪ 1955‬في "مؤتمر باندونج" مع‬

‫كل من الهند ويوغسلافيا‪ .‬ولم تكن مثل هذه السياسات الثورية هينة على‬     ‫أنا من مواليد ما بعد ثورة يوليو ‪ ،1952‬وتحديًدا عام ‪1955‬؛ أي‬
‫القوى الاستعمارية الغربية ‪-‬وعلى رأسها آنذاك إنجلترا (بريطانيا‬         ‫إنني أكملت عامي السبعين هذا العام ‪ .2025‬ويا لها من سبعينية حافلة‬
‫العظمى) وفرنسا‪ -‬التي تزلزلت عروشها في معظم أنحاء العالم‪،‬‬              ‫بتقلبات عارمة وجذرية على كل المستويات المحلية والإقليمية‬
‫وأخذت الدول المستعمرة تسير على درب التحرير والاستقلال‪ .‬ولذلك‬          ‫والدولية‪ ،‬وفي مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية‬
‫أضمرت هذه القوى الاستعمارية الثأر من القيادة الجديدة في مصر‪،‬‬          ‫والاجتماعية والعلمية والثقافية والفنية والرياضية‪ .‬إن هذه التغيرات‬
‫واختلقت الذرائع لذلك العدوان المدَّبر عليها عام ‪ 1956‬من كٍل من‬        ‫المذهلة على مدى تلك الفترة يعطيني انطباًعا قوًّيا‪ ،‬وكأني عشت قرنين‬
‫بريطانيا وفرنسا وصنيعتهما "إسرائيل" التي زرعتها بريطانيا في‬
                                                                       ‫أو ثلاثة‪ ،‬وليس مجرد سبعين عاًما بأحداثها الجسام وسرعتها اللاهثة‪.‬‬

‫المنطقة منذ "وعد بلفور" المشؤوم عام ‪ 1917‬بإنشاء وطن قومي‬              ‫ونعود بعد هذه اللمحة الخاطفة عن أحوال العالم خلال تلك الفترة إلى‬
‫ليهود الشتات على أرض فلسطين‪ ،‬وهو ما تحقق عام ‪1948‬؛ إذ‬                 ‫واقع الحال ومجرى الأحداث في مصر المحروسة منذ بدايات النصف‬
‫استغلت هذه القوى الشريرة الثلاثة رغبة مصر ونيتها الصادقة في تنمية‬     ‫الثاني من القرن العشرين‪ ،‬وتحديًدا بعد ثورة ‪ .1952‬لقد ظلت مصر‬
‫اقتصادها ببناء السد العالي في أسوان ‪-‬لتوفير المياه والكهرباء اللازمة‬  ‫على مدى تاريخها الحديث ومن قبله الوسيط تحت حكم حكام من غير‬
‫لنهضة زراعية وصناعية‪ -‬لتنفيذ هذا المخطط الخبيث لضرب مصر‪.‬‬              ‫أبنائها من مماليك وعثمانيين وفرنسيين ثم أسرة محمد علي (الأسرة‬
‫ذلك أن مصر طلبت مساعدة "البنك الدولي" ‪-‬الذي كانت تهيمن عليه‬           ‫العلوية) الألبانية الأصل‪ ،‬والتي تخلل حكمها الاحتلال الإنجليزي‬
‫القوى الغربية‪ -‬لتمويل مشروع السد العملاق‪ .‬ولما رفض البنك الدولي‬       ‫لمصر منذ عام ‪ 1882‬حتى قيام ثورة يوليو ‪ .1952‬ومع قيام ثورة‬
‫الإقراض والتمويل لمصر لجأ رئيس مصر الزعيم جمال عبد الناصر‬             ‫يوليو ‪ 1952‬ابتهجت وتفاءلت الأغلبية الساحقة من المصريين بالحكم‬
‫إلى "تأميم شركة قناة السويس"؛ لُتصبح "شركة مساهمة مصرية"‪ ،‬بعد‬         ‫الجديد من (أبناء المصريين) الشباب من الضباط الأحرار الذين توالت‬
‫أن كانت تحت السيادة الغربية منذ افتتاح قناة السويس عام ‪،1869‬‬          ‫إنجازاتهم الهائلة؛ وأولها طرد المستعمر الإنجليزي الذي جثم على‬
‫وكانت عوائدها الضخمة من رسوم عبور السفن تصب في خزائن تلك‬              ‫أنفاس مصر لأكثر من سبعين عاًما‪ ،‬وإقامة حكم مصري وطني لينهي‬
‫الدول‪ .‬لذلك ُجن جنون إنجلترا وفرنسا‪ ،‬ومعهما إسرائيل وقاموا بعدوان‬     ‫حكم الأسرة العلوية‪ ،‬وإقامة عدالة اجتماعية حاولت التوازن بين‬
‫ثلاثي شرس ضد مصر عام ‪ .1956‬وصمد المصريون مع قيادتهم‬                   ‫الطبقات مع توزيع عادل للثروة‪ ،‬وأعادت للغالبية الساحقة من‬
‫الجديدة في وجه هذا العدوان الغادر وأفشلوا ‪-‬سياسًيا وعسكرًيا‪-‬‬          ‫المصريين البسطاء حياة كريمة جعلتهم يشعرون بأنهم "مواطنون" ذوو‬
‫مخططاته الخبيثة‪ ،‬وواصلت مصر التحدي‪ ،‬وأرست قواعد نهضة‬                  ‫كرامة‪ ،‬وليسوا رعايا أو غرباء في وطنهم الذي كان يستمتع بخيراته‬
‫زراعية وصناعية وتنموية كبيرة في كل المجالات‪ ،‬ولعبت مصر‬                ‫الأجانب وشريحة ضئيلة جًدا من الأرستقراطية المصرية‪ .‬كل هذه‬
‫أدواًر ا مميزة على المستويين العربي والدولي‪ ،‬وعاش المصريون بعدها‬      ‫المكاسب لبسطاء المصريين وتحسن أوضاعهم في الصحة والتعليم‬
‫حلم الدولة الإقليمية الكبرى الآخذة في النهوض والازدهار إقليمًيا‬       ‫والمستوى المعيشي المعقول جعلتهم يتشبثون بهذا الأمل الجديد‪،‬‬
                                                                      ‫ويلتفون حوله بكل حب وحماس أمًال في مستقبل أكثر ازدهاًر ا‪ .‬وهكذا‬
                                                            ‫ودولًيا‪.‬‬  ‫تحولت "الحركة المباركة" للضباط الأحرار إلى "ثورة" تعبر عن‬
‫ولكن هيهات للغرب ورأس حربته التي غرسها غدًر ا وعدواًنا في‬             ‫وجدان الشعب قادها أبناؤه‪ ،‬وتشبعت نفوس جماهير البسطاء بآمال‬
‫المنطقة ‪-‬أقصد إسرائيل‪ -‬أن يدع الفرصة لهذه الآمال المصرية‬
‫الطموحة لكي تصل مبتغاها المأمول من نهضة وازدهار؛ لذلك افتعلت‬                                                         ‫واعدة دانية قطوفها‪.‬‬
‫إسرائيل ‪-‬بمساندة غربية قوية من قوى الاستعمار الأوروبي القديم‪،‬‬         ‫هذا على المستوى الداخلي في مصر‪ ،‬أما على مستوى السياسة‬
‫ومن قوة استعمارية جديدة برزت بقوة على الساحة الدولية بعد الحرب‬        ‫الخارجية وحماية حدود مصر واستقلالها الوطني؛ فقد خاض عبد‬
‫العالمية الثانية هي الولايات المتحدة الأمريكية‪ -‬الذرائع لضرب قوة‬      ‫الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار معارك شرسة لتحرير الوطن من‬
                                                                      ‫الاحتلال الإنجليزي بمعاهدة الجلاء عام ‪ ،1954‬وهو ما تم بعد ذلك‬
                                         ‫مصر المتنامية في المنطقة‪.‬‬
                                                                                                ‫بقليل في خطوة كانت ُحلًما فصارت واقًعا‪.‬‬

‫‪37‬‬
   36   37   38   39   40   41   42   43   44   45   46