Page 53 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 53

‫انتصارات أكتوبر وإعادة تشكيل الهوية‬

‫التاريخ‪ .‬كذلك‪ ،‬انخرط كثير من المثقفين في إنتاج خطاب يؤكد على‬                             ‫د‪ .‬سهر سيد‬
‫وحدة المصير العربي‪ ،‬وعلى مركزية مصر في قيادة الأمة‪ .‬هذه اللغة‬
‫الفكرية كانت بمثابة جسر بين الجبهة العسكرية والجبهة الشعبية‪،‬‬        ‫لم يعرف المصريون عبر تاريخهم الطويل معنى الاستسلام‪ .‬فمنذ‬
                                                                    ‫الفراعنة الذين بنوا حضارة على ضفاف النيل ودافعوا عن‬
                      ‫تغذي الأولى بالأمل‪ ،‬وتعّبئ الثانية بالإصرار‪.‬‬  ‫حدودهم ضد الغزاة‪ ،‬مروًر ا بانتصارات صلاح الدين ضد‬
‫أما عن الفن فكان جزًءا لا يتجزأ من حرب أكتوبر؛ فالفن فلم يكن‬        ‫الصليبيين‪ ،‬وانتصار المصريين في معارك محمد علي ضد‬
‫ترًفا ولا نشاًطا جانبًيا‪ .‬تلك الأغاني الوطنية التي انطلقت من إذاعة‬  ‫التدخلات الأجنبية‪ ،‬ظل هناك خيط واحد يربط بين كل الأزمنة‪:‬‬
‫"صوت العرب" ومن القاهرة ‪-‬مثل "على الربابة بغني" و"بسم الله"‪-‬‬        ‫إيمان راسخ بأن الهزيمة عابرة‪ ،‬وأن النصر قدر المصري حين‬
‫شّكلت حالة وجدانية فريدة‪ .‬كانت الأغنية الوطنية آنذاك بمثابة السلاح‬
                                                                                                                      ‫تتحد إرادته‪.‬‬
                                       ‫النفسي الذي يوازي البندقية‪.‬‬  ‫جاءت حرب أكتوبر ‪ 1973‬لتكون الامتداد الطبيعي لهذا التاريخ‬
‫لم تقتصر إسهامات الفنانين على الغناء؛ فلعبت السينما أيًضا دورا‬      ‫العريق‪ .‬فبعد صدمة يونيو ‪ 1967‬التي أحدثت شرخا عميقا في‬
‫حين وّثقت النصر لاحًقا في أفلام مثل "الرصاصة لا تزال في جيبي"‬       ‫نفوس المصريين وزلزلت ثقتهم‪ ،‬كان لا بد من لحظة تعيد للأمة‬
‫و"الوفاء العظيم"‪ ،‬والتي أسهمت في ترسيخ صورة الانتصار في‬             ‫صورتها الأصلية‪ .‬وهكذا تحّو ل السادس من أكتوبر إلى معركة‬
‫وجدان الأجيال‪ .‬حتى المسرح والشعر دخلا المعركة عبر قصائد عبد‬         ‫استعادة للكرامة وروح الهوية الوطنية وإعادة صياغة وعي‬
‫الرحمن الأبنودي وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهما‪ ،‬حيث‬
                                                                                                                 ‫المصريين بذاتهم‪.‬‬
                                   ‫تحولت الكلمة إلى طاقة مقاومة‪.‬‬                                           ‫العبور واستعادة الكرامة‬
‫هكذا كان الفنان يوازي دور الجندي؛ إذ صنع من الإبداع قوة ناعمة‬       ‫كان عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف أكثر من إنجاز‬
                                                                    ‫عسكري؛ كان عبوًر ا من الانكسار إلى الثقة‪ .‬حين رفع الجندي‬
                                ‫تحمي الروح وُتحّصنها ضد اليأس‪.‬‬      ‫المصري العلم على الضفة الشرقية‪ ،‬لم يستعد الأرض فقط‪ ،‬بل‬
‫لكن هذا النصر لم يكن سلاًحا فقط‪ .‬فالمثقف لعب دور العقل الذي‬         ‫استعاد روح أمة بكاملها‪ .‬تلك اللحظة جّسدت المعنى العميق للهوية‬
‫يفسر ويمنح المعركة معناها‪ ،‬والفنان جّسد اللحظة في أغنية أو فيلم أو‬              ‫المصرية‪ :‬إن الكرامة لا ُتسترد إلا بالفعل والتضحية‪.‬‬
‫قصيدة تبقى في الذاكرة‪ .‬بهذا تحّو ل الانتصار من حدث عسكري‬            ‫فصورة الجندي المصري في أكتوبر كان امتداًدا لجندي الفراعنة‬
‫محدود إلى جزء من هوية أمة متجددة‪ .‬فلقد تكاتف كل من الجندي‬           ‫على أسوار مجدو‪ ،‬وللمقاتل المسلم في عين جالوت‪ ،‬وللمناضلين‬
‫والمثقف والفنان‪ ،‬وحولوا النصر إلى قصة ُتروى وُتتداول عبر‬            ‫ضد الاحتلال في ثورة ‪ .1919‬فعبر العصور ظل الجندي رمًز ا‬
                                                                    ‫للصمود والتضحية‪ .‬وفي أكتوبر‪ ،‬أثبت من جديد أن المصري حين‬
                                                         ‫الأجيال‪.‬‬                          ‫يقاتل من أجل الأرض والكرامة لا ُيهزم‪.‬‬
‫ختاًما؛ لقد كان عبور أكتوبر أكثر من كونه عبورا جغرافيا؛ كان‬
‫عبوًر ا من الانكسار إلى الكرامة‪ ،‬ومن الشك إلى الثقة‪ .‬وفي هذا‬                                                    ‫المثقف والفنان…‬
‫العبور‪ ،‬تكاملت أدوار الجندي والمثقف والفنان لتصنع هوية انتصار‬       ‫في موازاة الجبهة العسكرية‪ ،‬كانت هناك جبهة فكرية لا تقل‬
‫لا تزال حاضرة في وجدان المصريين حتى اليوم‪ .‬وهكذا يظل أكتوبر‬         ‫أهمية‪ .‬المثقفون ‪-‬من كتاب وصحفيين ومفكرين‪ -‬لعبوا دوًر ا‬
‫لحظة تأسيسية في تاريخ مصر‪ ،‬تؤكد أن الهوية الوطنية تتجدد كلما‬
                                                                                  ‫محورًيا في تعبئة الوعي العام‪ .‬بعد صدمة ‪.1967‬‬
       ‫توحدت قوى الأمة الصلبة والناعمة مًعا في مواجهة التحديات‪.‬‬     ‫فكان هناك سؤال وجودي‪" :‬من نحن؟" و"هل نستطيع المواجهة‬

 ‫‪49‬‬                                                                              ‫من جديد؟" جاء دور المثقف ليجيب ويعيد بناء الثقة‪.‬‬
                                                                    ‫تلك الكتابات الصحفية في الصحف القومية والمقالات التحليلية‬
                                                                    ‫أسهمت في تشكيل رأي عام صامد‪ ،‬وفي بث الثقة بأن الهزيمة لم‬

                                                                                                                         ‫تكن نهاية‬
   48   49   50   51   52   53   54   55   56   57   58