Page 237 - m
P. 237

‫‪235‬‬  ‫ثقافات وفنون‬

     ‫حوار‬

‫تكن التجربة الوحيدة لكنها الأكثر‬        ‫وألمح ِت إلى أن ذلك ربما‬                 ‫صعوبة الاندماج؟‬
   ‫تعبي ًرا عن ازمة المثقف‪ .‬بالطبع‬   ‫أ َّثر على مكانتك بين الأدباء‬
    ‫فكرت في كل هذا‪ ،‬لكنني كنت‬                                             ‫الحقيقة التي اختبرتها أن البشر‬
    ‫‪-‬وما زلت‪ -‬أعتقد أن الوجود‬           ‫المصريين والعرب‪ ..‬هل‬              ‫في رحلة الهجرة لا يبحثون عن‬
  ‫الحقيقي للكاتب هو كتابته‪ ،‬وأن‬          ‫تعتقدين أن هذا التأثير‬           ‫الاندماج‪ ،‬يبحثون في البداية عن‬
    ‫الوجود الفيزيقي في مصر قد‬          ‫لا يزال موجو ًدا في زمن‬          ‫من يشبههم‪ ،‬الإنسان ابن ذاكرته‪،‬‬
    ‫لا يعني سوى محاولة بائسة‬        ‫الإنترنت والسوشيال ميديا‬
               ‫للتشبت بالماضي‪.‬‬      ‫والاتصال عن بعد بالصوت‬                   ‫الغربة تدفع المهاجر لا إراد ًّيا‬
   ‫بالطبع بعد انقطاعي عن الحياة‬       ‫والصورة وانتشار الكتب‬             ‫للحنين‪ ،‬تعيش الجاليات الصغيرة‬
      ‫الثقافية بالهجرة تم تجاوز‬           ‫الإليكترونية؟ أم حلَّت‬        ‫والكبيرة في جيتوهاتها‪ ،‬تبحث عن‬
   ‫تجربتي‪ ،‬ظهرت أسماء جديدة‬           ‫التكنولوجيا هذه المشكلة؟‬
  ‫وكتابات جديدة وأجيال جديدة‪،‬‬                                              ‫الروائح ذاتها‪ ،‬عن الطعام الذي‬
      ‫بل أصبح جيل التسعينيات‬           ‫عندما فكرت في السفر حذرني‬            ‫يعرفونه‪ ،‬عن الملامح والألوان‬
       ‫بمجمله على هامش الكتابة‬        ‫صديقي العزيز يوسف أبو رية‬            ‫التي تشبههم‪ ،‬ثم يبحثون بعد‬
    ‫والشهرة والانتشار‪ ،‬لكن هذا‬      ‫‪-‬رحمه الله‪ -‬من النسيان‪ ،‬قال إن‬        ‫ذلك ‪-‬أو في النهاية‪ -‬عن التق ُّبل‪،‬‬
  ‫لم يفزعني‪ ،‬كنت وما زلت أقامر‬      ‫الكاتب لا بد أن يعيش في حاضنته‬           ‫عن الاندماج المزعوم‪ ،‬تجربة‬
 ‫على الكتابة‪ ،‬وأعتقد أنها الوسيلة‬
                                         ‫الثقافية‪ ،‬وسط قرائه ولغته‪،‬‬          ‫المثقف في التأقلم هي تجربة‬
‫والغاية التي تكفل للكاتب الوجود‪،‬‬      ‫وإن الغياب الفيزيقي عن المشهد‬      ‫أكثر تعقي ًدا لأن المثقف ابن لغته‪،‬‬
 ‫في النهاية تنتهي الحياة ولا يبقي‬    ‫الثقافي يؤثر أي ًضا على حضوره‪،‬‬
                                       ‫وضرب أمثا ًل كثيرة عن كتاب‬           ‫وأكثر وعيًا بهويته ومن ثم لا‬
    ‫من الكاتب غير جوهر تجربته‬         ‫انشغلوا عن الكتابة بالبحث عن‬      ‫يستطيع الانسجام بسهولة‪ ،‬يدرك‬
      ‫الحقيقة التي تكفل له بعض‬
                                         ‫الرزق‪ ،‬وهذا صحيح إلى حد‬           ‫بشكل أسرع أزماته الوجودية‬
 ‫الخلود أو الحضور رغم الغياب‪.‬‬         ‫كبير‪ ،‬كانت الهجرة أزمة كبيرة‬        ‫وهوياته المهددة‪ ،‬المنفى بطبيعته‬
     ‫صحيح أن وسائل التواصل‬          ‫للكاتب‪ ،‬وهي أحد إشكالات المثقف‬       ‫‪-‬حتى لو لم يكن قسر ًّيا‪ -‬تجربة‬
                                    ‫الذي عليه أن يغادر لغتة وعوالمه‪،‬‬     ‫قاسية ومربكة إنسانيًّا‪ ،‬انشغلت‬
‫والإنترنت كفلا لي بعض التواصل‬        ‫وربما في هذا الإطار تقف تجربة‬       ‫بتلك التجربة بطبيعة الحال لأني‬
   ‫وخ َّففا بعض العزلة‪ ،‬لكن أعظم‬       ‫عبد الحكيم قاسم التي ظهرت‬
                                       ‫في رسائله التي أعدها ونشرها‬          ‫أعيشها‪ ،‬أمارس يوميًّا تمارين‬
‫فوائد وسائل التواصل بالنسبة لي‬       ‫محمد شعير‪ ،‬فقد عاش قاسم في‬          ‫قاسية لتجاوز الماضي ونسيانه‪،‬‬
‫كانت القدرة على المتابعة‪ ،‬لم أنقطع‬    ‫أروقة برلين وحي ًدا‪ ،‬يحاول عبر‬
                                     ‫تلك الرسائل أن يحافظ باستماته‬           ‫لكنني مثل الآخرين اكتشف‬
     ‫قط عن القراءة لكل الكتابات‬        ‫على هويته ككاتب‪ ،‬يغالب فكرة‬           ‫صعوبة هذا الاقتلاع‪ ،‬تصبح‬
  ‫والأقلام الجديدة‪ ،‬لم أتوقف قط‬                                             ‫الأزمة أكثر تعقي ًدا إذا حاولت‬
   ‫عن الاهتمام بكل كتابة حقيقية‬         ‫الانطفاء والغياب عن الساحة‬      ‫العودة‪ ،‬يصبح الاغتراب مزدو ًجا‪،‬‬
 ‫نالت موقعها على خرائط الكتابة‪،‬‬        ‫الأدبية التي سري ًعا ما تناسته‪،‬‬   ‫وتستحيل كل محاولات التصالح‬
‫وهذا هو المفهوم والمعيار الحقيقي‬                                        ‫مع صور الماضي أو الحاضر‪ ،‬كما‬
 ‫لفكرة التواصل‪ ،‬إنه الانفتاح على‬         ‫يحافظ على حاضنته الثقافية‬         ‫تستحيل عملية الاندماج أي ًضا‪.‬‬
‫التجارب الجديدة‪ ،‬ومن ثم التطور‬        ‫عبر الرسائل‪ ،‬يحاول العيش في‬
                                       ‫الماضي لحماية هويته وعلاقته‬          ‫في حوارك مع تليفزيون‬
      ‫وقبول الآخرين‪ ،‬لأن هؤلاء‬       ‫بالكتابة‪ ،‬تجربة قاسم القاسية لم‬           ‫“اليوم السابع” قل ِت‬
 ‫الآخرين صاروا جز ًءا من حركة‬
 ‫الكتابة التي لا تتوقف عند أسماء‬                                            ‫إن الغربة تجعل الأديب‬
                                                                           ‫المغترب منقط ًعا عن بيئته‬
         ‫بعينها أو أجيال بعينها‪.‬‬
                                                                            ‫التي يكتب لها وبلغتها‪،‬‬
   232   233   234   235   236   237   238   239   240   241   242