Page 38 - m
P. 38
العـدد 56 36
أغسطس ٢٠٢3
وذلك يمثل عتبة أولى للفقد ،إنه هنا ينقلها إلى عالم المشهد الثاني :مشهد الفقد
آخر حربي (لحظة القصف) ،وكأن الزهور هنا في
حرب مع القاصفين ،والقصف أمر صعب ،إذ يتم بعد أن أوقف الشاعر (أمل دنقل) مشهده الأول
الاستهلالي على الإفاقة المقيدة ،عبر البطاقة -المقيدة
بمعدات ثقيلة كالصورايخ وغيرها.
إن (أمل دنقل) هنا يفتعل ميدان معركة دامية أي ًضا -بعد أن صنع ذلك نجده في المشهد الثاني
بين الزهور من جهة ،وقاصفيها من جهة أخرى. قد اقترب من الورد ،بل الزهور ،أو الزهرات ،لا
ويصل الشاعر بزهوره الجميلة تلك إلى لحظة الفقد ليشمهن ،أو ينتشي بمنظرهن ،وإنما راح يخابرهن،
الأكبر والموات الأبشع (لحظه إعدامها في الخميلة)، و يتعمقهن ،ويتحدث معهن (تتحدث لي الزهرات
وكأنه يقول :إنه يميتها ،بل يعدمها قبل نضوجها،
كالطفل حينما تقتله اليد الغاشمة ،وهو في حجر الجميلة) ،إنه هنا يصدر الحديث ،أو التحدث
أمه ،إنه يصعد الحرب على الزهور ،فبدأ بالقطف، للزهرة ،وكأنها تعلم سره وحاله ،فبادرته التحدث،
ومر بالقصف ،وانتهى بالإعدام .إنه الموت المتنامي، ولك أن تتخيل دلالة شبه الجملة (لي) ،وما توحي
حيث يبدأ بالأقل ،فالأوسط ،فالأكثر ،أو الأبشع، به من كشف وتعرية ،إذ لم تتحدث عنه ،وإنما تبث
وليس ذلك غريبًا على شاعر عاش ،ولا يزال يعيش شكواها هي الأخرى ،عبر تحدثها له ومعه ،ويزداد
مناه ًضا مرضه وواقعه في آن واحد. جمال تصويره ،حينما يجعل التحدث جماعيًّا
على أن اندهاش الأعين ،أعين الزهور ،لم تتج َّل (الزهرات) ،إذ حول إفرادها (الورد) إلى (زهرات)،
صورتها الدالة إلا بالنظر إلى المواقف أو اللحظات
الثلاث المتراتبة (القطف /القصف /الإعدام)، ومن دلالة (الوردة) إلي دلالة (الزهرة) ،بل
ومحاوله فك طلاسمها ،بالعودة إلى ذات الشاعر (الزهرات) ،وما تبعثه من عبق جماعي رافد ،ويزيد
نفسه ،إذ يراها هي عينها ذوات الزهور ،فجعل ما من جمال الصورة ،بأن نعت الزهرات بسمة الجمال
يتبدى ظاه ًرا للزهور يعادل -يسبر غور الشاعر
(الزهرات الجميلة) ،ولم تكن تلك الزيادة الجمالية
نفسه. إلا إرها ًصا لأمر آخر يغرض إليه ،أو بالجملة
وحينما يق ِّدم الشاعر (أمل دنقل) اللحظات الفقدية
يرهص بتحدثها ،بل بجمالها لتعرية واقعها ،وما
الثلاث ،إنما يقدم وسائل البطش التي عاثته ،بل تعانيه هي الأخرى من عقبات ومعضلات.
عرقلته هو شخصيًّا ،إذ القطف باليد ،أو بعنصر
حديدي ،والقصف بآلة أكبر وأبشع ،إلى الإعدام، أصبح بين الشاعر (أمل دنقل) وزهوره هنا علاقه
وهو أعلى وسيلة من وسائل ذلك الفعل ،ويزيد من تواصل -التحدث -التي بدورها تكشف عن نقله
فاعلية المشهد الحربي الأخير أن يجعل الإعدام إياها عبر الصورة التشخيصية من مجالها النباتي
الطبيعي ،إلى مجال إنساني بشري (أن أعينها
-أبشع وسائل القتل -للزهور في الخميلة، اتسعت دهشة)..؛ وذلك حينما بدأت تحكي له ،أو
أي قتلها بأبشع الوسائل وأح ِّدها، تتحدث إليه أو ًل عن مأساتها ،ولك أن تلحظ دقة
فض ًل عن تحقيق ذلك تصويره في تأكيده بـ(أن) على مجموع (أعينها)،
مع اتساعها (اتسعت) ،حيث أخذتها الدهشة ،إذ
إنها في موقف الضعف ،بل الفقد ،واندهاشها هنا،
إنما هو مبني على المفارقة ،بين سعيها للحياة،
ومحاولة قطفها ،بل قتلها (لحظه القطف) ،إذ إنها
لحظة فقد ،تعيشها الزهور ،إذ إن مجموع العيون
مع اتساعها عنصران يمث ًلن حالة دهشة ،تتعاظم
حينما يتم القطف ،ويزداد تعاظمها السلبي درجة،
بل درجات ،حينما تختلجها يد الإنسان (لحظه
القطف) ،إنه هنا ينقلها من سياق القطف ،وهو
منوط بقطف الإنسان له في موعده ،أو غير موعده؛