Page 103 - merit el-thaqafia 38 feb 2022
P. 103

‫‪101‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫قصــة‬

  ‫أتمدد الآن على سريري وأنظر عيون الذبابة التي‬          ‫أيقظني مبك ًرا صوت سيارة بيضاء في حلمي‪ ،‬كان‬
     ‫ملأت السقف‪ ،‬قتل ُت الوقت وأزيز الذبابة ينال‬        ‫صوتها جنائز ًّيا وكان قلبي يخبط بقوة في صدري‬
                                                       ‫لدرجة سمعت ارتطام وتينه بأضلعي‪ ،‬ثم م َّر يومان‬
 ‫مني ويجتاحني الضجر؛ يحتل مساحتي ومساحة‬                  ‫ولم أسمع صوت عادل‪ ..‬ثم يوم آخر وتمكن مني‬
                               ‫المكان‪ ..‬كل المكان‪.‬‬      ‫القلق والأرق الذي يعرف كيف يتمادى بضوضائه‬

‫أتعب في محاولاتي للنوم‪ ،‬فينال مني الأرق كخردة‬                                    ‫ذات المهماز فوق القلب‪.‬‬
  ‫بالية‪ ،‬لا نفع في جسدي الملقي على السرير‪ ..‬أزيز‬            ‫عرفت أنه أصيب أثناء التدريب وأن يمينه بات‬
   ‫الذبابة ضجر كثيف‪ ..‬ضجر من العمر والناس‪..‬‬                ‫مشو ًها ويده بترت‪ ،‬هكذا أخبرتني أخته‪ ،‬أقمت‬
                                                             ‫لوحدي جنازته المسبقة‪ ،‬ثم تركت لحزني أن‬
‫من البيت‪ ..‬النوم‪ ..‬اليقظة‪ ..‬الحزن‪ ..‬الوطن‪ ..‬الدنيا‪..‬‬
‫القلق‪ ..‬النسيم‪ ..‬الجيران‪ ..‬الطرق‪ ..‬النهار‪ ..‬الغربة‪..‬‬                                            ‫يتبعها‪.‬‬
                                                        ‫كنت واثقة مما سيخطر في باله‪ ،‬وكانت فرصة من‬
      ‫الليل‪ ..‬الأغاني‪ ..‬الأبواب‪ ..‬الزحمة‪ ..‬العطش‪..‬‬      ‫أبواب متاحة وواسعة‪ ،‬قالت لي أخته إنه سقط لي ًل‬
  ‫السير‪ ..‬التبول‪ ..‬الأفكار‪ ..‬الألم‪ ..‬التوقف‪ ..‬البرد‪..‬‬  ‫من الطابق السابع في المشفى‪ ،‬أغلقت هاتفي الخلوي‬

       ‫الصمت‪ ..‬الكلام‪ ..‬الصباح‪ ..‬الأرق‪ ..‬عيوني‪..‬‬          ‫وضعت سماعات الأذن ثم استمعت لأغنية (‪My‬‬
       ‫جسدي‪ ..‬الصوت‪ ..‬الماء‪ ..‬السارية في دمي‪..‬‬           ‫‪ )body is a cage‬بأعلى صوت‪ ،‬وكررتها‪ ،‬كانت‬
    ‫الحركة‪ ..‬الوجوه‪ ..‬وقلبي‪ ..‬ضجرت من قلبي‪..‬‬
     ‫أسهو من التعب فيوقظني الضجر الأليم ج ًّدا‪،‬‬                                      ‫من أغانيه المفضلة‪.‬‬
‫ممس ًكا قلبي بقبضته ويعصره‪ ،‬تلك طريقته الرتيبة‬             ‫لم أبك ولم تذرف عيني دمعة واحدة‪ ،‬فقد اعتاد‬
    ‫في الإيقاظ‪ ..‬أليم ومباغت لا يترك لي مجا ًل وأنا‬        ‫بكائي أن يكون لحنين مموه أو لسبب مجهول‪،‬‬
 ‫المتكومة على وجهي المنزوع الرغبة‪ ..‬لا يتركني إلا‬
                                                             ‫تعبأت بالحزن لفراق عادل لكني لم أبك‪ ..‬بل‬
          ‫حين يتأكد أني على شفا موت أو جنون‪.‬‬             ‫اكتفيت بلملمة ذكراه وألصقت صوره على حيطان‬
   ‫قبضته الأخرى تعتصر عقلي‪ ،‬يشردني ويغ ّربني‬           ‫الذاكرة‪ ،‬ورحت أقضي وقتي بمشاهدتها‪ ،‬ث َّم دخلت‬
  ‫فتخرج شرائط العمر والأفكار‪ ..‬النوايا‪ ..‬الرغبة‪..‬‬
   ‫المستقبل‪ ..‬الماضي‪ ..‬الحاضر‪ ..‬القصص‪ ..‬الحب‪..‬‬             ‫دهاليز ومتاهات لم ألاحظها قب ًل‪ ،‬وهكذا هربت‬
‫الولادة‪ ..‬الفقدان‪ ..‬الهزيمة‪ ..‬تخرج من بين أصابعه‪.‬‬                                         ‫للمرة الثانية‪.‬‬
  ‫قبضتان تفتح عين َّي على مصراعيهما كأني لم أنم‬
    ‫منذ عمر طويل‪ ،‬عيناي مفتوحتان على السقف‪..‬‬                   ‫حاولت أمي أن تب َّث حنانها مما زاد في ألمي‬
                                                          ‫والحزن‪ ..‬لم أكن الفتاة التي ترغب بها أمي‪ ،‬فلم‬
        ‫السقف المشوب بألف عين‪ ،‬ألف ثقب أسود‬                ‫أجالسها لنشرب القهوة على كلام عادي‪ ،‬الكلام‬
              ‫يمتصني‪ ..‬يفتتني‪ ..‬ويسحب فتاتي‪.‬‬                ‫الذي يجري بين أم وابنتها والذي لم يكن لد َّي‬

  ‫يحولني لكرة خيوط متشابكة ثم ين ّسلني تنسي ًل‪،‬‬             ‫القدرة لأقوم به‪ ،‬وأما أبي فكنت أرى في عينيه‬
  ‫ليسحب خي ًطا تنسحب معه الروح‪ ،‬تنفلت إرادتي‬               ‫كلا ًما يعتقد أنه هامشي فيخجل من البوح به‪..‬‬
‫مني‪ ،‬إنها طوع الضجر الأليم‪ .‬جسدي يغادرني‪ ،‬لا‬
‫سلطة لي عليه‪ ،‬فسلطة الضجر فتاكة‪ُ ..‬ينهض قدم َّي‬                                             ‫وليته باح‪.‬‬
‫من السرير ثم يسوقني‪ ..‬فأخدم رغبته‪ ،‬كأن يجعل‬                ‫َت َحول الناس والأشياء لأي ٍد تل ِّوح لي‪ ،‬واجتررت‬
   ‫بيدي سكينًا‪ ،‬أو ك ًّما من مبيد حشري‪ ،‬ويضحك‬           ‫حنينًا غريبًا‪ ،‬لا بل حبًّا لكل ما حولي حتى لو أساء‬
                                                        ‫لي‪ ،‬كنت أشعر أن ودا ًعا ما يقيم حده عليَّ ويضفي‬
         ‫ساخ ًرا‪ :‬كم حشرة تعادلين بهذه الجرعة‪.‬‬           ‫طاب ًعا مختل ًفا على كل شيء‪ ،‬فالشارع الذي أسير‬
   ‫ثم يتفنن بالمراوغة أكثر فيش ُّل قدرتي على القيام‬         ‫عليه يهبني وهو يودعني إحسا َس سرير غ ٍّض‬
                                                          ‫مريح‪ ،‬والعمود تحول لجسد يعانقني‪ ،‬والشجرة‬
      ‫بحمل السكين أو اجتراع المبيد‪ ..‬يأخذ الإرادة‬          ‫في مدخل البناية تبتسم لي وتهز أوراقها ودا ًعا‪،‬‬
   ‫والعزم الذي أحتاجه لأوقف نزف الموت المتتابع‪،‬‬          ‫حتى فك ابنة خالتي التمساحي وضحكتها أثارت‬
‫بأن أمتلك خياري وأموت مرة واحدة‪ ..‬واحدة فقط‪.‬‬
                                                                           ‫اضطرا ًبا ما لكني ما كرهتها‪.‬‬
   98   99   100   101   102   103   104   105   106   107   108