Page 86 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 86
العـدد 25 84
يناير ٢٠٢1
ولم تكن أبدا جميلة ،عن مدينة جرفوها وسرقوها الإسكندرية إلى معبر وجسر وحلقة وصل ومنارة
وتركوها بلا نوافذ ولا أبواب ،بدون أسقف وبدون و”فنار” .ألف عام من المجد والصراع والصعود
والانحطاط ،حتى جاءت الولادة الثانية على يد محمد
ضمير ،عن مدينة ملعونة رغم عظمتها في الواقع علي ،وكأن مصيرها ارتبط ،شئنا أم أبينا ،بهؤلاء
وفي الأسطورة على حد سواء ،عن مدينة فاشلة ابنة الآتين من هناك ،من مقدونيا أو من “قولة” القريبة
منها! فأين كان السكندريون ،وأين هم الآن ،وأين
كلب لم تستطع يو ًما أن تكون أ ًّما لأولادها ،عن سيكونون في المستقبل؟! أين أولئك الذين بنوا في
مدينة مسروقة ومسكونة باللصوص وقطاع الطريق صمت ،وهبطوا إلى البحر في صمت ،واصطادوا
أرزاقهم في صمت؟! أين أولئك الذين نزلوا إلى البحر
والتافهين والقساة والقتلة الذين يجردونها يوميًّا ولم يعودوا؟! كل ذلك مرتبط بوجه مصر وبعينيها،
من زينتها ومن ثيابها ،ويتاجرون بها وبأعضائها وبأين تنظر .فمنذ أن انتقلت العاصمة إلى شرق النيل،
وبملابسها الداخلية ،عن مدينة يقولون إنها كانت وانسحبت مصر إلى داخل الصحراء ،ضعفت الروح،
كبيرة بحجم الكون ،اتسعت لتحوى كل تاريخ العالم،
لكنها لم تستطع أن تحوي أجسادنا وأحلامنا وتجعل ونزل الأولاد البحر ولم يعودوا.
أرواحنا جنو ًدا تحرسها وتقرأ عليها تعاويذنا الحميمة. ولكن منذ متى وبسطاء المصريين يتمتعون بخيرات
هذه المدينة ليست مجرد جغرافيا وتاريخ ،ليست
مجرد مكان وبشر وزمن ،إنها قدر ومهنة وهوية مصر بكل عواصمها منذ آلاف السنين قبل الميلاد
وحنين مهما اختلف السكندريون على كولونياليتها وبعده؟! والإسكندرية أي ًضا ليست استثناء ،مثلها
أو كوزموبوليتانيتها .إنها قدر ومهنة وهوية وحنين مثل تنيس ومنف وهيركليوبوليس (إهناسيا الحالية)
وإله .إنها امرأة ،كما تراها ابنتي ،بأجوائها المتقلبة وطيبة (الأقصر الحالية) ولتجتاوي وخاسوت (سخا
وفصولها المتعاقبة ،بطقوسها وتعاويذها وسطوة الحالية) وأواريس (زوان الحالية) وأخيتاتون (تل
العمارنة حاليًا) وبر وتانيس (صان الحجر الحالية)
حضورها ،بحنانها وحنينها وجموح بحرها، وبوباستيس (تل بسطة الحالية) وسايس ومنديس
بتضاريسها المهيمنة على الروح ،وبقدرتها على خلق (تل الربع الحالية) وسبينيتوس (سمنود الحالية)
الحياة ومنحها لأبنائها وللغرباء على حد سواء. والفسطاط والعسكر والقطائع والقاهرة؟!
بين كولونيالية الإسكندرية وكوزموبوليتانيتها تولد إنها مدينة ليست فقط قدرية ،بل لها خصوصيتها
الأسطورة وتتحقق بالخيال تارة وبالحلم تارة أخرى.
القدرية الاستثنائية ،لأنها محكومة دوما بال َق َدر
فهي مدينة ضد المُط َلق وإن كانت ترقد على حلم وبالأسطورة في أن م ًعا ،بالخيال وبالحنين في آن
وأسطورة وحنين وإيمان ،هي مزيج من كل شيء، واحد ،وبتلك الصورة الذهنية التي يجب ،وحت ًما،
ومن اللا شيء .امرأة ،كما تقول ابنتي ،قادرة على وينبغي أن تتحول إلى واقع ولو حتى في الأحلام
خلق الأساطير وإطلاق الخيال وولادة الأفكار حتى وبالأحلام أو بقوة السلاح أو بالفتنة وسفك الدماء:
لو أغرقوها في البؤس والحزن والأسى وال َف ْقد ،إنها أحلام أولئك المهمشين منذ الولادة الأولى وما قبلها،
ببساطة َر ِح ٌم قاد ٌر على ولادة تلك الروح الجامعة لا أحلام الفقراء والمحرومين والحالمين والعاطلين ،أو
لصهر أبناء الصعيد والدلتا فقط ،بل وأبناء إيطاليا بيقين أولئك الذين يوجهون أنظارهم نحو الصحراء
واليونان وأرمينيا .إنها مدينة نسائية بامتياز كما
تؤكد أسطورة ابنتنا سانت كاترين التي حملت الملائكة ويؤمنون بالرمال وبالسيف ووأد الروح ،أو في
تصورات وأوهام أولئك الذين يرون طوق النجاه على
جثمانها الطاهر إلى جبل سيناء.
فماذا حدث بالضبط؟! لا أحد يدري! لقد استيقظنا ذات الشاطئ الآخر البعيد .من هنا تنشأ خصوصيتها
واستثنائيتها وظلمها وغنجها ودلالها وحنانها
صباح ،فإذا الشمس غائبة ،والقمر غائب ،وملامحنا وقسوتها على نفسها وعلى أولادها.
غائبة ،والبحر غاضب ،ووحوش سوداء كاسرة ماذا يمكن أن يحكي الأولاد عنها؟! قال ابني إنه
تحجب الهواء ،وتغلق النوافذ والأبواب .كلما صحونا سوف يحكي لأبنائه وأحفاده عن مدينة ليست جميلة،
فوجدنا مصر قد ابتعد ْت عن البحر ،وتوغل ْت في
الصحراء.