Page 26 - ثقافة قانونية - العدد الرابع - للنشر الإلكتروني نهائي
P. 26

‫افلـىعمـصردااللقـديـمـةة‬

                                                         ‫نظام العدالة‬
                                                       ‫فى مصر القديمة‬

                                                                                                         ‫بقلم‪:‬‬

                                                                                        ‫د‪ .‬حسين عبد البصير‬

                                                                                              ‫مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية‬
                                                       ‫كان المصريــون القدمــاء مــن أوائــل الشــعوب التــى قدســت الحــق‬
                                                       ‫والحقيقــة‪ ،‬وأعلــت مــن شــأن العدالــة‪ ،‬واحترمــت الصــدق والقانــون‪،‬‬
                                                       ‫وبنــت حضارتهــا علــى النظــام الكونــي المســتقر‪ .‬ومنــذ تاريخهــا المبكــر‪،‬‬
                                                       ‫اهتـدت مصـر القديمـة إلـى معرفـة وممارسـة الحقيقـة والعدالـة والحـق‬
                                                       ‫والقانـون والنظـام بمعنـاه العـام‪ ،‬وأي ًضـا النظـام الكونـي المتـوازن‪ ،‬والقيـم‬
                                                       ‫المعنويــة والماديــة المبنيــة والمســتمدة مــن هــذه المفاهيــم المطلقــة‬

                                                                                                                         ‫ومقوماتهــا الإيجابيــة‪.‬‬

‫كان الملوك الفراعنة مسؤولين في نهاية المطاف عن‬         ‫يدور النظام السياسي والإداري‪ ،‬وغيره من النظم‪،‬‬                  ‫ربة العدالة ماعت‪.‬‬
‫جميع الأمور القانونية في مصر‪ .‬وكانوا في كثير من‬        ‫في فلكه الرصين الذي لا يصيبه الخلل أب ًدا‪ .‬وأقام‬  ‫رمز المصريون القدماء إلى هذا كله بإلهة ذات‬
‫الأحيان يصدرون المراسيم ذات الطابع القضائي‪ .‬وكان‬       ‫الملوك الفراعنة دولتهم العريقة والمستقرة على‬      ‫طبيعة حساسة وصفات عظمى‪ .‬وكـان من صدق‬
‫الوزير تحت الفرعون مباشرة‪ ،‬يعمل كيده اليمنى‪.‬‬           ‫أساس متين من «الماعت» وبوحي وهدى منها وتحت‬        ‫حسهم وحدسهم بها وتعظيمهم لشأنها أن أطلقوا‬
‫ووضع الفرعون الوزير على رأس الإدارة البيروقراطية‬       ‫إرشادها القويم‪ .‬وكان هذا أحد أهم أسباب نجاح‬       ‫عليها اسـم «مـاعـت»‪ .‬ويعنى هـذا الاســم حرف ًيا‬
‫القوية في مصر‪ .‬وكان مسؤولاً عن النظام القضائي‬          ‫وتميز وازدهار الدولة المصرية القديمة ورأس النظام‬  ‫«الصدق» أو «العادلة»‪ .‬واعتبروا هذه الربة المميزة‬
‫للدولة‪ ،‬وفــ ّوض الفرعون والـوزيـر مسؤولياتهما‬         ‫الحاكم المتمثل في شخص الملك الذي كان يتولى الحكم‬  ‫ابنة لرب الأرباب‪ ،‬المعبود الكوني رب الشمس «رع»‪.‬‬
                                                       ‫نيابة عن الآلهة باسم «الماعت»‪ ،‬وكذلك ممثلوه من‬    ‫وصور المصريون القدماء عادة تلك الربة المهمة على‬
       ‫القضائية والإدارية إلى المسؤولين المحليين‪.‬‬      ‫كل رجـال الحكم مثل الوزير والكهنة وكبار رجال‬      ‫هيئة سيدة تشير إلى العدالة في مفهومها العام‪،‬‬
‫منذ عهد الدولة القديمة (‪ - 2686‬حوالي ‪2181‬‬              ‫الدين وقادة الجيش وحكام الأقاليم والقضاة وكل‬      ‫إما واقفة أو جالسة‪ ،‬تعلو رأسها ريشة ترمز إلى‬
‫ق‪.‬م) كانت مصر ُتدار من قبل مجموعة من الموظفين‬          ‫الموظفين العسكريين والمدنيين إلى أصغر موظفي‬       ‫نزاهة الحكم والعدالة المطلقة وتمسك بيدها اليمنى‬
‫المتعلمين‪ ،‬وهم الكتاّب الذين اجتازوا المهمة الشاقة‬     ‫الدولة المصرية العريقة في فنون الإدارة والتدوين‬   ‫علامة «عنخ» (وتعني «الحياة») التي كانت ترمز إلى‬
‫المتمثلة في تعلم القراءة والكتابة‪ .‬وكان لطبقة الكتاّب‬                                                    ‫الحياة في كل مناحيها وسياقها العام والخاص مما‬
‫دور أساسي في ازدهـار مصر‪ .‬كما تطور القانون‬                                         ‫والتراتب الوظيفي‪.‬‬     ‫يعني أن الحياة لا تستقيم دون عدالة‪ ،‬وحملت في‬
‫المصري ببطء شديد‪ ،‬وكانت القوانين يمكن أن تظل‬           ‫لقد كانت العدالة ذات مفهوم مهم للغاية في‬          ‫يسراها صولجا ًنا يرمز إلى الحكم الرشيد المستند‬
                                                       ‫مصر القديمة؛ إذ كانت جز ًءا لا يتجزأ من جميع‬      ‫إلــى الحــق والـشـرعـيـة وتطبيق الـعـدالـة وسـيـادة‬
             ‫سارية المفعول لفترات طويلة للغاية‪.‬‬        ‫جوانب المجتمع وثقافته‪ .‬وكان القانون أسا ًسا في‬    ‫القانون وتفعيل وإرســاء الحـق وتقديس الصدق‪.‬‬
‫من هذا الوصف الواسع للهيكل الإداري لمصر‪ ،‬لا‬            ‫حياة المـصـري الـقـديم فقد كانت مصر معروفة‬        ‫ونظ ًرا لما جسدته تلك الربة «ماعت» من قيم نظامية‬
‫يمكننا استنتاج الطريقة التي كان ُيارس بها القانون‬      ‫بمشروعيتها القانونية‪ .‬واعتبر المصري القديم أن‬     ‫وأخلاقية عدة‪ ،‬فقد جسدت المفهوم الذي دعت إليها‬
‫في الواقع‪ .‬وعلى الرغم من أن الحجم الهائل للمصادر‬       ‫قرارات المحكمة لها أكبر تأثير على حياة المجتمع‪،‬‬   ‫آلهة مصر الكبرى المؤسسة والحامية للدولة المصرية‬
‫المتاحة لنا‪ ،‬فإنه لم يتم بعد العثور على أي مثال‬        ‫وكان يجب معاقبة الخارجين على القانون بل وتقديم‬    ‫من خلال تكليف الملك المصري الحاكم والذي كان‬
                                                       ‫المساعدات للأطراف المتضررة‪ ،‬وعلى الرغم من تعيين‬   ‫ممثلاً لهم على الأرض بصفته ابن الآلهة وممثل‬
  ‫للقانون المصري المقنن قبل عام ‪ 700‬قبل الميلاد‪.‬‬       ‫أفضل الرجال من مختلف أنحاء مصر كقضاة فإنهم‬        ‫الأربـاب إلى تطبيق «الماعت» كنظام كوني شامل‬
‫في غياب قانون مقنن موجود‪ ،‬يجب أن تستند‬
‫معرفتنا بالقانون المصري في الواقع إلى وثائق أخرى‬              ‫لم يصلوا إلى النهاية التي كانت في ذهنهم‪.‬‬                        ‫أكتوبر ‪262024‬‬
‫متاحة‪ ،‬مثل العقود والوصايا وسجلات المحاكمة‬
   21   22   23   24   25   26   27   28   29   30   31