Page 24 - ثقافة قانونية - العدد الرابع - للنشر الإلكتروني نهائي
P. 24

‫افلـىعمـصردااللقـديـمـةة‬

                                                           ‫تأملات في محراب الوطن‬

                                                     ‫مصر جاءت ثم جاء التاريخ‬

                                                                                                          ‫بقلم‪:‬‬

                                                                                          ‫إمام محمد فراج‬

                                                                                                                ‫باحث في تراث مصر‬

                                                     ‫مصــر جــاءت قبــل العــرب وبنــي إســرائيل وقبــل كل شــعوب الأرض ‪ ..‬مصــر‬
                                                     ‫فــي أســوأ عصورهــا وأزماتهــا كانــت هــي الدنيــا والتاريــخ ‪ ..‬عندمــا كان‬
                                                     ‫العالــم أجمــع يســكن الكهــوف والجبــال وينــام فــى العــراء كان أجدادنــا‬
                                                     ‫يبنــون القصــور والقــاع و والاهرامــات والمعابــد ‪ ..‬فمصــر الأرض الوحيــدة‬
                                                     ‫التـي تجلـي الله عليهـا و كلـم الانبيـاء فيهـا ‪ ..‬والدولـة الوحيـدة التـي ذكـرت‬
                                                     ‫فــي القــرآن صراحــة ‪ ..‬وقــرن اســمها فيــه بالأمــن والأمــان وخزائــن الارض ‪..‬‬
                                                     ‫وبــارك الله شــعبها كمــا ورد فــي الإنجيــل ‪ ..‬وعلمــت العالــم الكتابــة وخــط‬
                                                     ‫القلـم والإدارة‪ ..‬ملجـأ الأنبيـاء والصالحيـن ‪ ..‬يـا أبنـاء مصـر مـا قدرتموهـا حـق‬

                                                                                                 ‫تقديرهــا ومــا راعيتموهــا حــق رعايتهــا‪.‬‬

‫لدى سكان مصر القديمة يضم كل ما في الوجود‪ ،‬بل‬         ‫السياسية إنما هدفه تحقيق العدالة للجميع ‪ ،‬وأن‬        ‫العدالة هي الضمان الأكبر لاستمرار العيش بسلام‬
‫كل ما يمكن أن يعد شيئاً ذا كيان‪ :‬البشر‪ ،‬الحيوان‪،‬‬     ‫الحكومات تكتسب الاحترام والتقدير بقدر ما تسهر‬        ‫في المجتمع ‪ ،‬عليها تقوم المعاملات والعلاقات بين‬
‫الجماد‪ ،‬الظواهر الطبيعية‪ ،‬وكذلك الأفكار المجردة‬      ‫على تنفيذ القوانين ومن ثم الاستقرار والعدالة بين‬     ‫الافــراد والجماعات وهـي التي ينشدها الجميع‬
‫كالعدالة‪ ،‬والاستقامة ‪ ..‬وكانت هذه الكيانات تعتبر‬     ‫المواطنين ؛ ولذا أعلن كل فرعون جديد حين اعتلاء‬       ‫حاكمين ومحكومين ‪ ،‬وبدونها ينقلب المجتمع إلى‬
‫كلها أعضاء في الدولة الكونية‪ ،‬ولم تكن جميعها‬         ‫العرش أنه مفوض من قبل الآلهة” لاستعادة «الماعت”‬      ‫فوضى ويسود الاضطراب ويعم الظلم ‪ ..‬وتعد العدالة‬
‫على مستوى سياسي واحد‪ ،‬ولذا كان المجلس العام‬          ‫فكانت ماعت نموذجاً للسلوك البشري‪ ،‬وفقاً لإرادة‬       ‫بمثابة الحد الفاصل بين ما للفرد من حقوق‪ ،‬وماعليه‬
‫في الدولة الكونية للإله ‪ ..‬والإله هو السلطة العليا‬   ‫الآلهة ‪ ..‬بهذا قد أخذت ماعت ( الحقيقة والعدالة)‬      ‫من واجبات ‪ ،‬فتحول بذلك دون سيطرة الأقوياء على‬
‫في الكون‪ ،‬يتخذ القرارات الخطيرة بشأن مصائر‬           ‫بعداً ميتافيزيقياً‪ ،‬وهذا بدوره أنعكس على النظام‬      ‫الضعفاء‪ ،‬وهنا تلتقى العدالة مع القانون باعتبارها‬
‫البشر‪ ،‬وكل ما في الحياة ‪ ..‬لقد بقيت فكرة الدولة‬      ‫السياسي الذي قام على هذه الفكرة ‪ ،‬فكان جوهر‬          ‫مجموعة القواعد الملزمة التي تنظم سلوك الافراد‬
‫الكونية مستقرة نسبياً طوال الألف الثالث ق‪.‬م‪ ،‬غير‬                                                          ‫في المجتمع وتضع المعايير الفاصلة بين مالهم من‬
‫أن الدولة البشرية الفعلية تطورت في أثناء ذلك تطوراً‬               ‫السلطة يدور حول تحقيق العدالة ‪..‬‬        ‫حقوق و ما عليهم من واجبات ‪ ..‬لقد صنف الباحثون‬
‫كبيراً ‪ ،‬فازدادت السلطة المركزية قوة‪ ،‬واشتد جهاز‬     ‫وكان تصور المصريين القدماء للعدالة تصوراً شاملاً‬     ‫الأفكار التي تمت بصلة إلى موضوع العدالة إلى‬
‫العدالة كفاءة‪ ،‬وأصبح العقاب يتلو الجريمة بانتظام‬     ‫يركز على تحقيق أكبر قدر من المساواة الاجتماعية‬       ‫اتجاهين الأول ‪ :‬الأفكار التي تندرج في إطار ما يعرف‬
‫متزايد ‪ ..‬ومن عجب أن يسود عالمنا المعاصر الفوضى‬      ‫بين البشر ‪ ..‬وفكرة أن العدالة شيء من حق كل‬           ‫بمذهب المنفعة‪ ،‬والثاني الأفكار التي لها صلة بما‬
‫وعدم الأمن والاستقرار وممارسة المذابح والإبادة‬       ‫إنسان أخذت تتبلور ببطء اعتباراً من الألف الثاني‬      ‫هو ”واجب أخلاقي”‪ ،‬فالعدالة هي مسألة واجبات‬
‫الجماعية تحت نظر النظام الكوني ‪ ،‬وربما برعايته‪..‬‬     ‫ق‪.‬م بحيث أضحى الناس يشعرون أن العدالة حق‬             ‫صارمة لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها لأي‬
‫المصري القديم كان أكثر تديناً و التزاماً ‪ ..‬فمن‬      ‫مشروع‪ ،‬لا منة شخصية ‪ ..‬وقد نجحوا في أن يحققوا‬
‫كتاب الموتي وهـو من الوثائق الدينية والنصوص‬          ‫هذه العدالة بمفهومها الاجتماعي والسياسي‪ ،‬وأن‬                                      ‫اعتبارات أخرى ‪..‬‬
‫الجنائزية لدي القدماء المصريين ‪ :‬لم اقتل أحداً‬       ‫يقدموا صورة لكيفية تحقيق التوازن بين سلطات‬           ‫وقد خلف المصريون القدماء نصوصاً تشتمل‬
‫‪ ..‬لم أمر بقتل أحد ‪ ..‬لم اشت ِه زوجة جاري ‪ ..‬لم‬      ‫الدولة المختلفة ‪ ،‬والالتزام بالقوانين والأعراف التي‬  ‫على الدعوة إلى تأسيس نظام الحكم على العدالة‪،‬‬
‫أدنس نفسي ‪ ..‬لم أكذب ‪ ..‬لم اسرق ‪ ..‬لم اشهد‬           ‫توارثها المصريون جيلاً بعد جيل ‪ ..‬ونحن في واقعنا‬     ‫ففي الوقت التي كانت تسوء فيه الظروف السياسية‬
‫زوراً ‪ ..‬لم املأ قلبي حقداً ‪ ..‬لم أدنس ماء النيل‬                                                          ‫كانت تظهر خطابات تؤكد على أن الخـاص من‬
‫‪ ..‬لم أكـن سبباً في دمـوع إنسان ‪ ..‬لم أكـن سبباً‬        ‫المعاصر بحاجة ماسة لاستلهام هذه المعاني ‪..‬‬        ‫تلك الظروف يتمثل في تطبيق العدالة ‪ ..‬وبهذا فإن‬
                                                     ‫وعرفت مصر العدالة الكونية قبل أن يعرفها العالم‬       ‫المصريين القدامى كانوا أول من أدرك أن قيام السلطة‬
                                                     ‫من خلال المنظمات والمواثيق الدولية‪ ..‬كان الكون‬

                                                                                                          ‫أكتوبر ‪242024‬‬
   19   20   21   22   23   24   25   26   27   28   29