Page 62 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 62
العـدد 27 60
مارس ٢٠٢1
البناء التقليدي القديم والعقيم في الوقت نفسه حول شخصية ثانوية .ولعل هذا ُطرح بقصد ليلقي
نظرة المجتمع الدونية للمرأة .فلا تنتهي الرواية إلا الضوء على المفهوم السائد للجنوسة لدى الشرق،
بقلب هذا البناء وهدمه عبر التهديد والوعيد من قبل
«حسنة» ،عندما أحس الراوي «صوتها في الظلام وهو البنية الأيديولوجية التي تهدف إلى التمييز
بين الرجال والنساء ،على أساس علاقة هرمية من
كأنه نصل« :إن أجبروني على الزواج منه فإنني الهيمنة والتبعية .وكما كان توظيف الجنس والمرأة
سأقتله وأقتل نفسي» ،انتقا ًما لنفسها ولغيرها عنصر ضروري لإبراز صراع الهوية بين الشرق
من النساء اللاتي يتم غصبهن .ومن ث َّم فالأنثى والغرب ،فلقد و ّظف الطيب صالح المرأة -ولا سيما
النصية لا تبحث عن خلاصها الفردي ،بل الخلاص
الجماعي ،فتقتل «حسنة» ود الريس بعشر طعنات، في السودان -لتسليط الضوء على براثن العادات
ثم تقتل نفسها هي الأخرى بعد مشهد انتهاك التي يرسف فيها الشرق .فالشرق ليس ضحية
دائ ًما وليس مجنيًا عليه أب ًدا ،بل إن له ي ًدا في انهيار
جنسي مؤلم.
وهنا يتب ّدى سؤال آخر حول شخصية «حسنة»: حضارته وسقوط مكانته بين الأمم.
هل «حسنة» نموذج نسوي «فحسب» يج ّسد معاناة يتبين هذا التوظيف في شخصيتين متباينتين:
«حسنة بنت محمود» و»بنت مجذوب» .تظهر
المرأة في المجتمع الشرقي؟ الأولى وهي أرملة «مصطفى سعيد» -ولا سيما
إن الإجابة بـ»نعم» من الممكن أن تكون مجانبة بعد موت زوجها -كالمغلوبة على أمرها بعد الز ّج
للصواب ،ولكن الأمر قد يتخ ّطى الذات النسوية بها للزواج من «ود الريس» دون رغبتها ،بينما
والمطالبة بحقوق المرأة في رواية تفرض الصراع «بنت مجذوب» تمثل النموذج الذي يجالس الرجال
بين الهويات والأمم .لا يمكن إغفال الربط بين المرأة وتمتلك صو ًتا رجوليًا مبحو ًحا .تمتلك الأخيرة
والأرض بأي حال من الأحوال ،فهل يريد الطيب نفسية المرأة التي تستعير سمات وصفات ذكورية
صالح أن يجعل من «حسنة» هي الأخرى رم ًزا كما كي تتمكن من حفظ ح ّقها ،وهو العكس من «حسنة»
كان «مصطفى سعيد» ذاته رم ًزا أكثر منه إنسا ًنا الجميلة التي يتم انتهاك جسدها من قبل «ود
حقيقيًّا؟ لربما ُتجسد «حسنة» الشرق برمته ،أو الريس» بعد زواجه منها .وهنا يمكن للقارئ رؤية
بالأحرى عجز الشرق أمام نفسه وأمام المعرقلات جميع الهويات الدونية -بحسب المفهوم السائد-
التي يخلقها لنفسه ويط ّوق عنقه بها ،فيتر ّدى مجتمعة في شخص واحد :البشرة السوداء ،الشرق،
مشلو ًل لا يمكنه تحرير نفسه من (نفسه) ومن جنسها كامرأة .لا تنقل الرواية مجرد حالة فردية
في المجتمع ،وإنما تع ُبر الجسر إلى أفق الجماعية،
المستعمر الأجنبي. لتكون الشخصية في النص تلخي ًصا للأنثى في
وأخي ًرا ،إن موضوعة الجنس تظهر بجلاء في رواية المجتمع الشرقي بكل ما يحيط بها من أعراف
«موسم الهجرة إلى الشمال» للكاتب الطيب صالح، وتقاليد ،حاصرتها وحاصرت وظيفتها الحياتية
في جانب ضيق محدود .بل وتوضح الرواية كيف
ولكن يف ِّعلها الكاتب بغية مكاشفة أزمة الهويات. تعامل المرأة معاملة تصل بها إلى حد البهائم ،يقول
يو ِّظف الكاتب تلك الموضوعة ليسلط الضوء على «محجوب» عن «ود الريس» ونظرته في زواجه
أزمة الهوية بين الشرق /الجنوب والغرب /الشمال من «حسنة»« :ود الريس كهؤلاء المغرمين باقتناء
عبر استعراض الانتهاك والاغتصاب الجنسي من الحمير ،الواحد منهم لا تعجبه الحمارة إلا إذا
قبل الجنوب للشمال ،وكذلك يعرض أزمة الهوية رأى رج ًل آخر راكبًا عليها .يراها حينئ ٍذ جميلة
ويسعى جاه ًدا لشرائها» .تعيد الرواية بناء ذلك
لدى الشرق نفسه وفهمه لشخصيته عبر استعراض
انتهاكه لذاته من خلال شخصية المرأة