Page 117 - merit 53
P. 117

‫‪115‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة في تونس‬

   ‫مع الزمن‪ ،‬ولكن آخر ما بدر من ابنتي الوسطى‪،‬‬         ‫لو تقاعست عنها ثانية واحدة‪ ،‬سيختل توازنها‬
‫بمواجهتها الفجة لي‪ ،‬ونبرة صوتها العالية وكلامها‬                ‫ويتوقف دورانها وتنفجر بمن عليها‪.‬‬
  ‫المسموم الذي يخلو من العرفان‪ ،‬ذلك ما تداعى له‬
‫بنياني‪ ،‬ومزق أذني‪ ،‬وشطر رأسي‪ ،‬وفكك أعضائي‪،‬‬         ‫أنا‪ ،‬ومنذ سنوات‪ ،‬أم (مع كل ما تحمله هذه الكلمة‬
                                                    ‫من قداسة هذه صفة ناقصة‪ ،‬فلست أ ًّما فحسب)‪،‬‬
                   ‫وخسف بي الأرض من تحتي‪.‬‬          ‫إذن أنا «زوجة» (ولا هذه أي ًضا‪ ،‬لأن اسم «زوجة»‬
 ‫ارتج رأسي أو ًل‪ ،‬وتحرك بشدة في كل الاتجاهات‪،‬‬       ‫ليس إلا صفة لحالة مدنية تفرضها علينا الأوراق‬
                                                   ‫الرسمية)‪ ،‬إذن أنا «موظفة»؟ (ولا هذه أي ًضا‪ ،‬فهي‬
     ‫كأنما ضربه زلزال بلغ أعلى درجات رختر‪ ،‬ثم‬      ‫لا تمثل غير تحصيلي الدراسي‪ ،‬وشرعية لجرايتي‬
 ‫سمعت ارتطا ًما مدو ًيا على إثر سقوط كتلة معدنية‬
‫عظيمة من رأسي‪ ،‬تشظت أجزاؤها الغريبة وتناثرت‬          ‫الشهرية ومكسب رزقي‪ ،‬كما أنني لست موظفة‬
   ‫على أرضية المطبخ‪ ،‬ثم سرعان ما تملكت جسدي‬                        ‫كامل اليوم وعلى مدار الأسبوع)‪.‬‬
 ‫ه َّزات أخرى ارتجاجية‪ ،‬ضربت ذراعي‪ ،‬ثم ساقي‪،‬‬
  ‫فظهري وقدمي‪ ،‬وكانت تهوي من أطرافي على إثر‬         ‫فماذا أنا إذن؟ من أنا؟ لماذا أجدني أتوه عن تحديد‬
‫كل هزة أجسام غريبة‪ ،‬متفاوتة الأحجام والأشكال‪،‬‬             ‫ذاتي؟ أما من اسم دقيق ومنصف لهويتي؟‬

    ‫وحاولت برغم هول الصدمة ووطأة الذهول أن‬        ‫أنا (‪ ،)..‬جسد في حالة استنفار لا يهدأ ولا يستكين‪،‬‬
      ‫أتبين ماهيتها‪ ،‬فراعني أنها مسامير وعقارب‬     ‫أعمل بدوام كامل‪ ،‬وحالما أستيقظ أوزع أطرافي بين‬
      ‫وبراغي وبطاريات شحن‪ ،‬وأسلاك وعجلات‬          ‫مهام لا تحصى واختصاصات متنوعة‪ ،‬داخل البيت‬
                                                  ‫وخارجه‪ ،‬وأدفع بمركبة بيتي على خط الزمن لتسير‬
‫صغيرة معدنية صدئة‪ ،‬يا لها من خسارات‪ ،‬كم هو‬
      ‫مؤلم أن تسقط مني كل هذه الأشياء الثمينة‪.‬‬         ‫سي ًرا ناج ًحا وسلي ًما‪ .‬وفي آخر النهار‪ ،‬أستعيد‬
                                                     ‫أشتاتي التي وزعتها‪ ،‬وأستسلم إلى موت مؤقت‪،‬‬
  ‫تحسست جسدي مفزوعة‪ ،‬كانت فكرة أن تصبح‬             ‫لا يلبث أن يعيدني سري ًعا إلى عجلة الحياة‪ ،‬ويرتب‬
   ‫أعضاؤه مشوهة ومعطلة تملؤني رعبًا‪ ،‬جسسته‬           ‫ساعاتها على نسق مكرر ومنهك‪ ،‬وتطوى الأيام‪،‬‬
   ‫مرة إثر أخرى مستكشفة مواطن الألم‪ ،‬ففاجأني‬        ‫ويمضي الزمن قد ًما‪ ،‬كقطار مجنون‪ ،‬يسير سي ًرا‬

      ‫أنني كلما لمست عض ًوا سرى فيه دبيب ناعم‬                            ‫أعمى ولا يلوي على شيء‪.‬‬
 ‫عجيب‪ ،‬جعل ينتشر حتى تمكن من ذراعي فظهري‬                 ‫وكنت كمثل ذلك القطار في سيره الأعمى‪ ،‬لا‬
                                                    ‫يشغلني عن الطريق ونهاياته المنشودة شيء‪ ،‬ولا‬
    ‫وساقي وحولني إلى كتلة رخوة‪ ،‬ترنو إلى طلب‬         ‫حتى العلامات التي بدأت في الظهور علي جسدي‬
 ‫الراحة والاسترخاء‪ ،‬وكاد النعاس يغشاني لولا أن‬      ‫في شكل كدمات ونتوءات وخدوش وتقرحات‪ ،‬أو‬
  ‫صو ًتا حا ًّدا خرج من رأسي‪« :‬من أنت؟ ماذا أنت؟‬   ‫الأصوات التي صار يصدرها ويرفع من وتيرتها‪،‬‬
                                                  ‫ويطور أشكالها يو ًما بعد يوم‪ ،‬كان الصوت في أول‬
     ‫ما هويتك؟»‪ ،‬وبكل حزم رفعت ذراعي وأدليت‬       ‫الأمر شبيها بالأنين المكتوم‪ ،‬ثم صار ككلام مغمغم‪،‬‬
‫يدي داخل رأسي‪ ،‬كان فارغا بعد كل ما سقط منه‪،‬‬          ‫بعدها تحول إلى قرقعة‪ ،‬ثم غليان وصفير كالذي‬
                                                      ‫تصدره فتحة «الكوكوت» وهي تغلي بالأكل على‬
  ‫مما سهل عليَّ ما اعتزمت فعله‪ ،‬تحسست جوانبه‬       ‫الموقد في المطبخ‪ ،‬وآخر العلامات أن صارت تنبعث‬
  ‫وقاعه حتى عثرت على تلك الفكرة النزقة والتي لا‬       ‫من جسدي إشعارات صوتية وإنذارات ضوئية‬
 ‫تنفك تعذبني وتسائلني من أكون‪ ،‬التقطتها وألقيت‬
  ‫بها بقوة خارج رأسي إلى الأبد‪ ،‬ثم اتخذت قراري‬               ‫تومض وميض رسائل خطيرة مشفرة‪.‬‬
‫الحاسم‪ ،‬وجهزت له عدتي‪ ،‬فسارت الأمور بعد ذلك‬           ‫كانت الإشارات تزداد‪ ،‬والصخب يرتفع‪ ،‬وكنت‬

                   ‫على نحو هادئ‪ ،‬ناعم وعجيب‪.‬‬             ‫بدوري أمعن في التجاهل والقسوة أكثر على‬
      ‫ولجت غرفة الاستحمام الكبيرة‪ ،‬وانطلقت في‬                                             ‫جسدي‪.‬‬

                       ‫الاحتفاء ببدايتي الجديدة‪.‬‬       ‫كل هذه الإشارات كلها‪ ،‬وهذه الأصوات‪ ،‬كلها‪،‬‬
     ‫أغلقت الباب خلفي‪ .‬فتحت صنبور الماء‪ ،‬فتدفق‬       ‫لم تحرك ف َّي ساكنًا‪ ،‬ولم تعطل سيري في سباقي‬
 ‫السيل ساخنًا صاخبًا يملأ الحوض الدائري الزلق‬
     ‫بقوة‪ ،‬وأمسكت بمرش الفضة‪ ،‬قلبته وحركته‪،‬‬
   112   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122