Page 119 - merit 53
P. 119

‫‪117‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة في تونس‬

 ‫أنكرني كل شيء وأنكرته‪ ،‬ولم يبق لي غير حوض‬                 ‫فانسكبت قطرات ماء الزهر على سطح الماء‬
       ‫دائري يضمني ويغمرني بمائه اللزج‪ ،‬وكنت‬         ‫الساخن‪ ،‬وأضفت على إثره سائل الرغوة‪ ،‬ونثرت‬
                                                     ‫على الفقاعات البيضاء التي أحدثها السائل‪ ،‬بتلات‬
    ‫برغم الوحدة وعتمة البياض أشعر بأمان عميق‬
    ‫وأنا بداخله‪ ،‬وارتياح عجيب‪ ،‬وتسليم للقدر‪ ،‬ثم‬          ‫مجففة لزهرة الكاميليا‪ ،‬زهرتي الأحب ونبتة‬
                                                                    ‫حديقتي المزهرة على مدار السنة‪.‬‬
           ‫اجتاحتني فجأة رغبة في المرح في مائه‪.‬‬
    ‫أخذت أنقلب في مرح‪ ،‬وأنزلق وأتدحرج‪ ،‬وأدفع‬        ‫ففاح أريج عبق‪ ،‬تسرب بين مسامات البخار الذي‬
 ‫برجلي فتصطدم بجوانب الحوض‪ ،‬أتكور في رحمه‬               ‫انتشر عجاجه في الغرفة وتصاعد إلى سقفها‪.‬‬
    ‫ثم أنقلب رأسا على عقب وأعيد الكرة من جديد‪.‬‬
     ‫وكنت كلما ضربت بجدار الحوض بمرفقي أو‬           ‫على حافة طاولة خشبية لصيقة بالمغطس‪ ،‬وضعت‬
‫بقدمي أو ركبتي‪ ،‬يتناهى إلى أذني المغمورتين بالماء‬  ‫صحن تفاح ملكي وزجاجة عصير التصقت بجداره‬
     ‫صوت سحيق‪ ،‬يشبه صيحة الألم‪ ،‬أو الضحكة‬
 ‫المنفلتة‪ ،‬كان ذلك يثيرني ويؤنسني ويدفع بمتعتي‬         ‫البلوري حبيبات من الندى‪ ،‬وبعي ًدا حيث المرآة‬
                                                   ‫العريضة التي صارت شافة بالكامل‪ ،‬شغلت هاتفي‬
                                    ‫إلى أقصاها‪.‬‬
 ‫وفي غمرة مرحي وعبثي‪ ،‬أخذ جسدي يتخذ حج ًما‬            ‫(إمعا ًنا في الاحتفاء بذاتي أكثر) على سلسلة من‬
‫أكبر‪ ،‬مما عسر حركتي وأثقلها‪ ،‬ولم أزل كذلك حتى‬       ‫أنغام الجاز الهادئة والمصحوبة بصوت حميم لنقر‬
 ‫انحسر الماء وطفق يتسرب نحو ثقب البالوعة التي‬
  ‫أخذت تتسع وتتسع وتجذبني نحوها بقوة هائلة‪،‬‬                                                 ‫المطر‪.‬‬
‫عجزت عن مقاومتها‪ ،‬فابتلعتني بالكامل ودفعت بي‬         ‫تجردت من ملابسي على مهل وبفضول‪ ..‬إذن أنا‬
                                                   ‫امرأة‪ ،‬لطالما كنت راضية وسعيدة بكوني أنثى‪ ،‬قبل‬
                                  ‫إلى عالم جديد‪.‬‬    ‫أن تثقل كاهلي تبعات أنوثتي‪ ،‬ولكن ذلك ما عاد له‬
‫كان انفصالي عن ذلك الحوض الحاني مؤلمًا‪ ،‬فبكيت‬
                                                              ‫أهمية‪ ،‬طالما سأبدأ كل شيء من جديد‪.‬‬
  ‫بشدة‪ ،‬وتملكني الجزع لما تلقفتاني يدان كبيرتان‬    ‫غطست في الماء الساخن اللزج‪ ،‬واستسلمت للراحة‪.‬‬
‫محشورتان في قفازين بيضاوين‪ ،‬ولفتاني في مخمل‬
‫سماوي‪ ،‬ولكنهما حين ووضعتاني على صدر لاهث‬                  ‫كانت جميع عضلاتي مسترخية‪ ،‬وأعصابي‬
                                                     ‫مستكينة ورأسي خل ًوا من أية فكرة‪ ،‬شعور رائع‬
  ‫ودافئ‪ ،‬توقفت عن البكاء‪ ،‬وألقيت برأسي عليه ثم‬
‫استبد بي فجأة عطش شديد‪ ،‬وبعدها تعالت زغاريد‬                 ‫بالهدوء لا أذكر متى شعرت به آخر مرة‪.‬‬
                                                    ‫كان الضوء خافتًا والمشهد غائ ًما‪ ،‬والبخار يتكاثف‬
                                ‫ورددت أصوات‪:‬‬
 ‫‪« -‬صبي‪ ،‬ألف‪ ،‬ألف مبروك‪ ،‬صبي‪ ،‬الحمد الله على‬            ‫بلا هوادة‪ ،‬وشيئًا فشيئًا وعلى نحو مذهل أخذ‬
 ‫خلاصك‪ ،‬إن شاء الله يتربى في عزك‪ ،‬وإن شاء الله‬             ‫كل شيء يختفي من أمام ناظري‪ ،‬الجدران‬

                                  ‫بطول العمر»‪.‬‬       ‫والنافذة والباب‪ ،‬والمغسل والمرآة‪ ،‬وخزانة الف َوط‬
                                                   ‫والمناشف‪ ،‬والكرسي الخشبي‪ ،‬والأرضية والطاولة‬
                    ‫***‬                            ‫الخفيضة‪ ،‬وصحن الغلال وكوب العصير‪ ،‬وقوارير‬

    ‫أنا «أب وزوج وموظف»‪ ،‬لا يرتاح ولا يستكين‪،‬‬        ‫الشامبو وقطعة الإسفنج ومرفع السيراميك بكل‬
    ‫في رأسي منذ سنوات ساعة ذات طنين‪ ،‬وتحت‬            ‫مستحضرات التنظيف التي كانت تعتليه‪ .‬وطالت‬
‫أقدامي مربع لا ينفك يدور ويدور‪ .‬جسدي مستنفر‬        ‫ظاهرة الاختفاء رأسي ومخيلتي‪ ،‬غربت منه الأفكار‬
‫ويعمل بدوام كامل‪ ،‬حالما أستيقظ أوزع أطرافي بين‬      ‫وتلاشت الهموم‪ ،‬وتبخرت المدركات‪ ،‬وسقطت من‬
 ‫مهام لا تحصى واختصاصات لا تعد‪ ،‬داخل البيت‬           ‫ذاكرتي وجوه وأسماء وأحداث وتواريخ وما ٍض‬
     ‫وخارجه‪ ،‬حام ًل على كتفي كالصليب هم اليوم‬       ‫بكل حجمه وثقله‪ ،‬وما عاد حولي شيء يقيم دلي ًل‬
  ‫والخوف من الغد‪ ،‬وحتى تظل مركبة بيتي تسير‪،‬‬
                                                                                ‫على مكان أو زمان‪.‬‬
                     ‫أظل أنا لا أنفك أدور وأدور‪..‬‬      ‫صرت وحيدة وبعيدة‪ ،‬بجسد خفيف‪ ،‬معلق في‬
                                                       ‫اللامكان واللازمان‪ ،‬مزروع بين كثبان البخار‬
                                                    ‫والغمام‪ ،‬وصرت برأس فارغ وخفيف لا ينوء بهم‬
                                                      ‫اليوم ولا يشغله مصير الغد‪ ،‬ولا يراوده سؤال‪.‬‬
   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123   124