Page 119 - merit el-thaqafia 38 feb 2022
P. 119

‫‪117‬‬  ‫نون النسوة‬

     ‫السرد المعلقة التي جعلت القارىء يلهث وراء سير‬       ‫هؤلاء الح َّطابون في الغابات البكر والنجارون لخشب‬
  ‫الأحداث المتناسلة من الحدث الأول‪ ،‬هذه الأحداث التي‬                       ‫الصباحات التي يقتنصها الندى‪.‬‬

   ‫نجحت الكاتبة في تحويلها إلى أحداث رئيسية متعلقة‬                ‫مدارج السرد المعلقة‬
‫بمسيرة عائلتين حلبيتين من ديانتين مختلفتين‪ :‬الإسلام‬
‫والمسيحية‪ ،‬ومنطلقة من الأجداد الأوائل وصو ًل إلى جيل‬          ‫تتمرد غفران طحان على الأشكال الحكائية المعتادة‬
                                                           ‫برغبة الإطاحة بالنموذج السردي المألوف وما تأسس‬
  ‫اليوم ونظرته للحياة والوجود‪ .‬فتعود للأصول الأولى‬        ‫عليه من نظريات وقوانين هي أشبه بالدساتير القائمة‪،‬‬
   ‫للاستقرار في حلب عاصمة الخلافة الحمدانية وثاني‬          ‫تنشر بوليسها ومخابراتها من أجل التدقيق في درجة‬
‫المدن السورية بعد دمشق‪ ،‬والمدينة المفتاح فيما يدور من‬       ‫الانضباط لتعاليم السرد التي وضعها المنظرون‪ ،‬لقد‬
 ‫حرب مخدوعة في سوريا الآن‪ ،‬ومن تلك الإرادة الأولى‬          ‫رمت غفران طحان عرض الحائط بكل هذا وانصرفت‬
‫للتعمير والاستقرار في حلب إلى الإرادة اللاإرادية للفرار‬
                                                              ‫نحو الكتابة متحررة من كل قيد‪ ،‬وإذا بها تعمد إلى‬
               ‫منها‪ ،‬بما أنها أصبحت محرق ًة وخرا ًبا‪.‬‬    ‫تطريز على غاية من البساطة والهشاشة‪ ،‬أو هكذا سوف‬
    ‫توصلت غفران الطحان لسرد كل هذه المسيرة بلغة‬
‫شعرية مكثفة‪ ،‬معولة على قدرات شخوصها الذين هم في‬             ‫يبدو في ظاهره من خلال مخطط هيكلي غير متداخل‬
‫الأصل فنانون يعيشون في هذا الوجود بشكل فني؛ غير‬            ‫وأبعد ما يكون عن التعقيد‪ ،‬فالرواية قائمة على واقعة‬
  ‫أنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة واقع مأسوي‪ ،‬هو في‬          ‫واحدة في ظرف زمني لا يتجاوز الأربع وعشرين ساعة‬
    ‫الحقيقة جثة حاولت هذه الرواية أن تعيد لها الحياة‬      ‫(كما هو شأن يولسيوس لجويس)‪ ،‬وهناك شخصيتان‬

                                                              ‫يتداولان على سرد هذه الواقعة الوحيدة‪ ،‬كل واحد‬
                                                            ‫منهما حسب منظوره‪ :‬نورس من جهة وسوسنة من‬
                                                           ‫جهة أخرى‪ .‬أما المكان فلا يكاد يتجاوز حلب القديمة؛‬
                                                            ‫فعنوان «فاصلة بين نهرين» هو العنوان الأجدر لهذا‬

                                                              ‫العمل الأدبي‪ ،‬فهو بالفعل فاصلة صغيرة ج ًّدا من‬
                                                                  ‫حياة شخصين عمدت الكاتبة إلى تحويلها إلى‬

                                                              ‫لقطة زوم من خلال حدث عرضي ألا وهو العثور‬
                                                                 ‫على جثة ملقاة عند باب الشقة‪ ،‬هذا هو الحدث‬

                                                             ‫النواة‪ ،‬غير أن الأمر لن يتوقف هنا‪ ،‬فلقد استثمرت‬
                                                               ‫غفران طحان عدة موتيفات أخرى لتوسيع شبكة‬
                                                                     ‫روايتها فقامت بتوظيف الحلم‪ ،‬التداعيات‪،‬‬
                                                                   ‫الهذيان‪ ،‬القصيدة الشعرية‪ ،‬الاسترجاع بكل‬
                                                                 ‫أنواعه‪ ،‬والأهم من كل هذا أنها وظفت تطبيقات‬
                                                                 ‫منصات التواصل الاجتماعي بشكل ذكي لدفع‬
                                                                      ‫السرد وتعميق مجراه‪ ،‬فلجأت لاستعمال‬
                                                                          ‫محرك الأخبار الرئيسي للفايسبوك‪،‬‬
                                                                    ‫وتطبيق المراسلة فيه‪ ،‬كما عولت على تطبيق‬
                                                                        ‫اليوتيوب كأداة حكائية تخدم مسارات‬
                                                                      ‫القص‪ ،‬والاستعانة طب ًعا بتقنيات الهاتف‬
                                                                     ‫الذكي وما يمكن أن توفره من إمكانات في‬
                                                                     ‫توسيع دائرة الحكي؛ تقترح غفران طحان‬
                                                                     ‫إ ًذا عدة سردية مغايرة‪ ،‬وقد أثبتت جدارة‬
                                                                     ‫في توظيفها ارتقت لمرتبة الجرأة‪ ،‬مستعملة‬
                                                                       ‫أدوات مختلفة تما ًما‪ ،‬فهي بمثابة مدارج‬
   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123   124