Page 118 - merit el-thaqafia 38 feb 2022
P. 118

‫العـدد ‪38‬‬   ‫‪116‬‬

                                                     ‫فبراير ‪٢٠٢2‬‬

  ‫هذه القبلة التي جعلت منها امرأة حبلى‪ ،‬حبلت من‬      ‫الشم عنده‪ ،‬هذه الحاسة التي ظلت دائ ًما محل نفور‬
‫قبلة وهي الآن في عامها الخامس‪« :‬فجأة تحلى فمي‬        ‫عند الفلاسفة وجموع المفكرين‪ ،‬على اعتبار أنها ميزة‬
  ‫بنكهة قبلتنا الأولى‪ ،‬تلك القبلة التي أصابني بدوار‬   ‫حيوانية‪ ،‬لكن بعض الفلاسفة من مثل باشلار أفرد‬
                                                     ‫لها اهتما ًما خا ًّصا في كتابه «شاعرية أحلام اليقظة»‪،‬‬
  ‫(‪ )..‬نكهتها الآن تذوب في فمي كقطعة حلوى (‪)..‬‬
    ‫يتسرب سكرها بهدوء‪ ..‬الطعم كامل الآن‪ ،‬سكر‬          ‫كما تحدث عنها لوبروتون في كتابه «انتروبولوجبا‬
                  ‫يتوازن بملح خفيف» (ص‪.)85‬‬             ‫الجسد والحداثة»‪ ،‬على اعتبار أنها إحدى محفزات‬
   ‫كل واحد من الشخصيتين عالق في بدايته الأولى‪،‬‬
    ‫هذه البداية النكبة‪ ،‬نورس عالق في رائحة اللحم‬           ‫تشكيل الشخصية؛ وأهم علاماتها إنها مصدر‬
                                                      ‫للخوف‪ ،‬فلا غرابة أن يعيش نورس في هذه الرواية‬
‫الكريهة التي شمها بالسوق صحبة جدته‪ ،‬وسوسنة‬             ‫الرعب من خلال ما يشمه‪ ،‬حتى إن بناء شخصيته‬
     ‫عالقة في رائحة قبلتها الأولى مع آدم‪ .‬إنها هذه‬
                                                         ‫ارتكز على الخوف من الروائح الكريهة «الرائحة‬
  ‫الندبات التي أصابت الروح وشكلت مسيرة حياة‬           ‫الكريهة تجرحك من الداخل‪ ،‬تجعل معدتك في حرب‬
  ‫كل واحد منهما بشكل متوازي‪ ،‬يجمعهما التشرد‬
                                                        ‫معلنة ضدك‪ ،‬تذكرك بكل المآسي التي مررت بها‪،‬‬
      ‫العاطفي والبؤس الاجتماعي وتجمعهما حلب‪.‬‬          ‫تذكرك بأول خيانة‪ ،‬بأول خوف‪ ،‬بأول خيبة‪ ،‬بأول‬
     ‫هي الحرب في داخل كل منهما زادت من إيقاد‬          ‫موت عشت تفاصيله»‪( .‬ص‪ )11‬بل ومن ذلك رائحة‬
   ‫فتائلها‪ ،‬الحرب في الخارج‪ ،‬هذه الحرب المخدوعة‬
 ‫التي اشعلها وهم الحريات المغدورة‪ ،‬فلم تكن حلب‬           ‫الجثة التي عثر عليها ذات صباح عند عتبة بيته‪.‬‬
  ‫في حاجة إلى حرب لتصبح جنة‪ ،‬هي في حاجة إلى‬           ‫ومشكلة هذا الرجل أنه كان هو نفسه رائحته‪ ،‬رغم‬
   ‫فن لتكون حلب‪ ،‬وهذا ما كان يسعى إليه نورس‬            ‫ما يعيش فيه من غموض ضبابي‪ ،‬الأمر أشبه هنا‬
    ‫من خلال كتاباته وتسعى له سوسنه من خلال‬
      ‫مشاركاتها في الأنشطة المدنية‪ ،‬لقد زادت هذه‬         ‫بغرونوي كما يصفه سوسكيند في رواية العطر‬
  ‫الحرب من إيقاد حرب داخلية يعاني منها كل من‬             ‫قائ ًل‪« :‬كان الضباب رائحته هو رائحة غرنوي‪،‬‬
 ‫نورس وسوسنه‪ ،‬وغذت و ْه ًما كان في الأصل حل ًما‬        ‫رائحته الخاصة كانت الضباب‪ ،‬والغريب في الأمر‬
   ‫ثم تحول إلى كابوس‪ ،‬جثة يحملها كل شخص في‬               ‫أن غرنوي الذي عرف أن هذه رائحته لم يتمكن‬
‫أحشائه وصار يقرف من رائحتها‪ ،‬وكل ما في الأمر‬              ‫من شمها‪ ،‬كان بوسعه أن يغرق في ذاته كي لا‬
 ‫أن الروائية هنا تخوض حر ًبا ضد جثة الرواية بما‬       ‫يشم أي شيء آخر‪ ،‬ولكن دون جدوي»‪ .‬اما نورس‬
    ‫فعله فيها الاكاديميون والجامعيون والمنظرون‪،‬‬        ‫فهو يتحدث عن نفسه قائ ًل‪« :‬كانت الرائحة تمس‬
                                                         ‫كل كل جزء في جسدي وكأنها تحولت إلى كائن‬
                                                        ‫بألف إصبع‪ ،‬كل الأصابع تمتد نحوي وتخزني»‬

                                                                                       ‫(ص‪ .)17‬لكن‬
                                                                                      ‫نورس لا يشبه‬
                                                                                       ‫غرونوي‪ ،‬فهو‬
                                                                                      ‫أشبه بسوسنة‬

                                                                                          ‫التي تعيش‬
                                                                                        ‫نفس الخوف‬
                                                                                        ‫بنكهة أخرى‪،‬‬
                                                                                       ‫غير أنها تتقدم‬
                                                                                       ‫فيه وتواجهه‪،‬‬
                                                                                       ‫فهي دأبت على‬
                                                                                       ‫أن تشم رائحة‬
                                                                                         ‫القبلة الأولى‬
                                                                                     ‫المُ َّرة من فم آدم‪،‬‬
   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123