Page 100 - merit el thaqafya 38 feb 2022
P. 100
العـدد 38 98
فبراير ٢٠٢2
كان يسحبني معه فأشعر بانقباض في جذعي،
ورغبة بالبكاء لم أجد لها تفسي ًرا سوى لأن من
اسمي نصيب دائم الغروب والفقد.
لم يفارقني إحساس المسافات البعيدة بيني وبين
أهلي كأننا من عالمين مختلفين ،لم يفهوا لغتي ،ولو
رغب أحدهم بفهمي لترجم كلامي خطأً.
كان والدي بسي ًطا لا يتدخل بتربيتنا ،لا أذكر أنه
قال لي كلا ًما توجيهيًّا كما يفعل الآباء ،ولا أذكر
أني حدثته أو سألته يو ًما سؤا ًل ،مذ وعيت وجدته
مرتا ًحا في هوامشه فلم أستطع الاقتراب منه.
أمي كأبي في هامشها ،وبسيطة للحد الذي قد
تستغلها جارتنا لتنظيف بيتها بحجة الصبحية.
وجد أهلي في إنطوائي راحة لهم ،لا بل مدحوا
انطوائي وأعطوه اسم الفتاة العاقلة.
ساب ًقا كنت أجد ضالتي في الرسم ،فأرسم
أشكا ًل وشخصيات حادة الملامح منكسرة الزوايا
منفلتة من حجمها العادي ،كأن أرسم عينًا يتبعها
جسدها ..أرسم الأشكال ..أجدها تمسني ،ثم
أكرهها حين تنظر لي ببلاهة وترتبط في لحظتها..
وأنا التي أود الانعتاق من اللحظة والزمن ،فكل
وقت حاضر هو عبء بانتظار وقت آخر سأعيش
به شعور المؤقت ،فيصيبني الملل وأهرب من وقت
إلى الوقت الذي أرغب بالراحة فلا أجدها ..ضجر
من البيت ..الجدار ..قبضة الباب ..الشارع ..رفاق
المدرسة ..الأفلام ..أهلي ..فيروز ..حديث المدرس..
الطريق التي تحت قدمي ..السقف فوق رأسي..
الفلافل.
الشعور الوحيد الذي يز ُّن برأسي كدبور لعين هو
الحزن ،يغرس في قلبي سؤا ًل أشبه بقنبلة تتشظى
في راسي ثم قلبي ،فتحيلني لخرقة بالية ب َّكاءة
عديمة الشعور لأي معنى للحياة ..سؤال «وماذا
بعد؟».
كنت في العاشرة حين رأيت حل ًما غريبًا وقد
أرعبني ..رأيت أني قتلت الوقت ودفنته في مستنفع
قريب من مدينة عظيمة ،كائن وحيد شاهدني وأنا
أدفن الوقت ،ذبابة بعيونها الكثيرة ،كلما فقأت لها
عينًا تنبت مكانها أخرى ..لم أستطع القضاء عليها
وعرفت أنها ستلاحقني ما حييت ..لكن ما جرى
بقتلي للوقت أن اختلت موازين المدينة.