Page 60 - merit 50
P. 60
العـدد 50 58
فبراير ٢٠٢3
نادية توفيق
أنشودة بمداد أحمر*
أحالتني إلى كائن متعدد الألسنة وموحدها .صارت القلب ينبض
المدينة بألسنة ملخبطة وأصبحت أنا الكائن الغريب.
حتى أنهم حاولوا ختمي كي لا يضيعونني .أنقذني تجولت قلي ًل في الطرقات المعوجة .كل شيء
يوصلك إلى ذات البقعة .لم أتعب من المشي قدر
صديق من إثم الختم وأعادني إلى حظيرة البشر. تعبي من الإصرار على الوصول إلى ذات البقعة،
ما زال البشر يأتون من كل الشقوق والحفر وكأنها النداهة .اخترت الاستسلام .شعرت بخدر
قوي يلفني حين دخلت الميدان الفسيح .وتذكرت
يصعدون ويرتفعون قاصدين قبلتهم الوحيدة.
ميدان المدينة .السماء مزدانة بالكاميرات؛ فوجي نبوءة الأجداد وأدعية أولياء الله الصالحين
وأنشودة الوطن مصر التي تتحدث عن نفسها.
وكانون وكوداك .الموبايلات تحلق حولنا؛
سامسونج وبلاكبيري ونوكيا والأوحد آبل. عاودني الحنين إلى أزمنة عشتها ،إلى دروب
الشاشات تضيء وتنطفيء في رقصة أبدية حول فرار ونداءات خلاص وجمرات تطهير .عاودني
رأسي ،تسكرني بمداد أسود من نبيذ قرون الحنين إلى صدور َر ْخصة وأصوات عذبة وعيون
ماضية .أشعر بحرارة الداتا الصاخبة المتوهجة في ناعسة .عاودني حنين جارف إلى غرفة الميلاد وإلى
السماء .صور وتويتات ومقاطع فيديو ونغمات روائح طهي أصلية .تبدت لي النداهة كما تصفها
جيتار وروائح ذرة مشوي وبطاطا نيئة وبارود العجائز .كانت شهية مخيفة تنطق إيلا ًما وشب ًقا.
معبأ في ذرات بخار ماء يتجمع بتؤدة كي يشكل الاستسلام لها مؤلم بعذوبة ،بيقين اليائس أن
مخدره سيحميه من الإحساس وليس من الويل.
َف ْج ًرا بلا صوت. تعودت عيناي على الألوان المتداخلة .خيل إل َّي أن
ينادي أحدهم للصلاة .تتجمع الصفوف في سرعة أحدهم ينادي اسمي .اسم قبع كامنًا في غياهب
وتتحول قرقعة الأحذية والصنادل والشباشب أدغال التاريخ .المنادي صوت بلا وجه .يتقدم
الزاحفة فوق الأسفلت الحمول إلى أكف ضارعة الصوت مختر ًقا الجموع .أيصورون فيل ًما تاريخيًّا؟
في همهمة متسامية .لم أكن أعرف لي مكا ًنا وسط
الصفوف .لكنني تتبعت الأكف الضارعة فوجدت الكاميرات في كل مكان .والصوت الأليف ما زال
لي ركنًا غير بعيد عن القلب .كفاي بدآ بالذوبان ينادي .لا أدري بم أجيب .أخاف أن أكون بطل لقطة
سري ًعا تحت وطأة الدموع التي بدأت تتجمع حولنا
كقطرات المطر ،فتحولنا إلى أجنة تسبح في الرحم أو ساخرة .الموبايلات مشرعة أسلحتها الأثيرية .في
إلى كائنات بزعانف من نور أو إلى كائنات رخوة بلا دقائق وأصبح أضحوكة الشهر .تشبثت براحلتي
ومفاتيحي وسترتي كي أظل في موقعي .الصوت
صدف. بلا وجه ما زال يناديني .هذه المرة لا ينطق اسمي.
في الزحام تسمع صوت مغ ٍّن يأتيك مختل ًطا بل لا ينطق .هو ينشد أو يناجي أو يصلي .لم أفهم
اللغة .ما عدت أفهم لغة المدينة .سياحتي في الأرض
بالأدعية التي لا تتوقف.