Page 85 - merit 38 feb 2022
P. 85

‫‪83‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

  ‫الكون الأبدية‪ .‬دول البترول الخليجية لا تهتم كثي ًرا‬        ‫كاد الملل يقتلني وأنا معتقل في بيتي لعدة أشهر‬
   ‫بهذا الأمر‪ .‬عمو ًما فقد شهدت منظمة الأوبك للدول‬       ‫متتالية‪ .‬أتابع في قلق أخبار انتشار الوباء في بلادي‬
                                                         ‫وفي العالم‪ .‬أعداد المصابين‪ .‬أعداد الموتى ومن بينهم‬
     ‫المصدرة للبترول في أواخر عام ‪ 2020‬حالة من‬
    ‫الفوضى بعد التراجع الحاد في أسعار النفط حتى‬             ‫شقيقي‪ .‬أعداد الذين تم شفاؤهم ومن بينهم أعز‬
   ‫وصل سعره في إحدى شركات الخام الأمريكية إلى‬              ‫صديقاتي مشمش‪ .‬تيبست مفاصلي وازداد وزني‬
 ‫ما دون الصفر مسج ًل رق ًما قياسيًّا في الانخفاض لم‬
                                                             ‫من طول الجلوس والرقاد ومشاهدة التلفزيون‬
                            ‫يعرفه العالم من قبل‪.‬‬        ‫واجترار أنباء النكسات والحروب العربية‪ ،‬واغتصاب‬
  ‫لكل هذه الأسباب المقرفة أشعلت سيجارة ممعنًا في‬       ‫الضحكات من أفلام الأبيض والأسود القديمة‪ ،‬خاصة‬
‫شرودي الدائم الذي ازداد وتضخم من بعد الكورونا‪،‬‬
                                                             ‫حين يضحك عبد الوهاب قائ ًل ها ها ها في آلية‬
                ‫حتى أنني اعتدته بل أدمنته بالفعل‪.‬‬          ‫قاتلة لا تمت إلى الضحك بصلة‪ .‬نزلت مرات قليلة‬
     ‫اقترب مني كهل أشعث ذو لحية متسخة وعينين‬              ‫خلال الأشهر الماضية‪ .‬مرة ذهبت فيها إلى حجازي‬
    ‫زائغتين‪ .‬لا يرتدي الكمامة الواقية‪ .‬ربما لم يسمع‬       ‫بالعطارين لإصلاح عودي العتيق‪ .‬هو رجل يحتكر‬
    ‫عنها‪ .‬ربما لا يدري شيئًا عن الوباء من أصله كما‬     ‫هذه المهنة المنقرضة‪ .‬أسعاره خرافية لكن لا بديل عنه‬
  ‫يوحي شكله بذلك‪ .‬تغطي جلبابه الممزق سترة بالية‬          ‫فهو شديد المهارة‪ .‬المرة الثانية كانت لاستلام العود‬
‫يستعصي لونها على الوصف‪ .‬يضع في قدميه مزقتين‬              ‫بعد إصلاحه‪ .‬مرة أخرى نزلت لشراء ساندوتشات‬
  ‫جلديتين لا تمت معالمهما بصلة إلى عالم الأحذية‪ .‬في‬
   ‫البداية شعرت لوهلة بالتقزز من هيئته‪ .‬خشيت أن‬              ‫طعمية من هوليوود بوليفار في لوس انجيلوس‬
   ‫يجلس بجواري فيصيبني منه مكروه‪ .‬رأيته يحمل‬            ‫بولاية كاليفورنيا الساحرة‪ .‬عدت في دقائق إلى البيت‬
‫الملايين من فيروسات الكورونا بداخله وخارجه‪ .‬كنت‬
  ‫واث ًقا أنه مات من قبل‪ ،‬لكني لم أعرف كيف عاد إلى‬         ‫مرتد ًيا كمامتي التي كتمت أنفاسي‪ .‬صاحب المحل‬
‫الحياة ليسقط بحطامه الإنساني فوق مشاعري‪ ،‬قاط ًعا‬           ‫عراقي شديد البخل يميل إلى الحديث في السياسة‬
     ‫عليَّ مجال التأمل الشارد الذي جئت هنا من أجل‬      ‫ويستخسر إضافة قطعة إضافية من الخيار المخلل إلى‬
 ‫ممارسته‪ .‬بعد ذلك شعرت نحوه بمزيج من الإشفاق‬
‫والتعاطف‪ ،‬لم يخل من رغبة دفينة في استطلاع خبيئة‬                                            ‫الساندوتش‪.‬‬
  ‫أمره ضمن جولاتي لاستطلاع طباع البشر في فترة‬             ‫قررت النزول إلى مقهى سيدي جابر الكائنة بجوار‬
                                                        ‫المسجد دون أن تواتيني الجرأة على مجرد التفكير في‬
                      ‫الكمون اتقاء لشر الفيروس‪.‬‬        ‫صلاة المغرب بالمسجد خو ًفا من الموت‪ .‬ما الموت؟ قلت‬
     ‫لم أستبعد أن أكون مكانه في يوم من الأيام دون‬         ‫أصليها في البيت أو ًل ثم أنزل‪ .‬لم أستطع الانتظار‪.‬‬
    ‫الدخول في تفاصيل لا أهمية لها‪ .‬تمنيت أن يختار‬         ‫نزلت قبل الأذان‪ .‬سحبت مقع ًدا إلى مكان بعيد عن‬
‫مقعده بالقرب مني‪ .‬أحكمت الكمامة فوق أنفي وفمي‪،‬‬
     ‫أما الشرود الممنهج فاستعادته ميسورة بعد ذلك‬            ‫مدخل المقهى مراعاة للتباعد القطراني‪ ،‬ورغبة في‬
 ‫لأنني كذاب‪ .‬فوجئت به يجلس أمامي على الأرض ثم‬             ‫التأمل الذي أصبح عملي الوحيد وشغلي الشاغل في‬
   ‫يقوم فجأة في نفس اللحظة ويسحب مقع ًدا ليجلس‬         ‫هذه الحياة المخيفة التي أصبحت قائمة على الرعب‪ .‬هل‬
      ‫عليه بجواري مباشرة‪ .‬نظر إل َّي متأم ًل في براءة‬  ‫توقف الناس عن ممارسة الجنس حر ًصا على التباعد؟‬
     ‫متوحشة‪ ،‬ثم في لمح البصر تحول عنِّي شاخ ًصا‬        ‫ما معنى أن يتباعد زوجان؟ هل فترت الرغبة الجنسية‬
     ‫ببصره نحو الشجرة الكبيرة شديدة الاخضرار‬               ‫عند الرجال أم عند النساء أم عندهم جميعا؟ يقول‬
‫القابعة أمام المسجد‪ .‬كانت السماء تموج بمصهور من‬            ‫البعض إنها ازدادت كما ثبت من قبل أنها ازدادت‬
  ‫الألوان الداكنة الجميلة المؤذنة بالغروب‪ .‬سأله أنور‬     ‫خلال الحروب وأثناء الغارات وتحت قصف القنابل‬
                                                        ‫والصواريخ في جو من الإظلام التام‪ .‬الإحصائيات لم‬
                                         ‫بجفاء‪:‬‬         ‫تجب عن هذه الأسئلة‪ .‬ما موقف الحب من الفيروس‬
                                        ‫‪ -‬نعم؟!‬
                                                            ‫وما موقف الفيروس من الحب؟ سؤال لا تجيب‬
                                                          ‫عنه إلا شلالات سويسرا ولا تعرف سره إلا جبال‬
                                                          ‫الألب ساعة الغروب حين تنسكب في السماء ألوان‬
   80   81   82   83   84   85   86   87   88   89   90