Page 23 - Baghdadiat-RightToLeft
P. 23
بغداديات 17 جبرا واجاثا كريستي
تشكلت صورة بغداد في ذهني طفلا كمدينة اسطورية، رسمت معالمها قصص الف ليلة وليلة، ثم كمدينة تاريخية بفضل ما جاء في كتب التاريخ عن الخلفاء، ثم صارت بغداد في ذهني موطنا لنغم حزين وكل ت معبرة، بفضل ما كنت اسمعه من اغا .
انفقت ساعات وانا ابحث: متى تشكلت في ذهني بغداد كمدينة واقعية؟ وبفضل من؟ أغلب الظن ان ذلك تم بعد قراء لروايتي جبرا ابراهيم جبرا: صراخ في ليل طويل، وصيادون في شارع ضيق، واغلب الظن ان ذلك جرى بحدود العام 1980، قبل زيار الاولى لبغداد بثلاث سنوات، كنت ايامها طالبا في المرحلة الاعدادية، و اكن قد عرفت بعد ان جبرا فلسطيني، وليس عراقي. ايه قرأت اولا؟ لا استطيع التذكر، ولكن مراجعة سريعة عبر جوجل، تثبت ان صراخ في ليل طويل، وإن كانت تصف مدينة تشبه
بغداد، وتتقاطع شخصية بطلها "ام " مع شخصية جبرا نفسه، في مستهل حياته ببغداد، إلا انها كتبت قبل عام من رحلته الابدية الى العراق.
كتب جبرا رواية صيادون في شارع ضيق، بالإنجليزية اولا، بعد مرور 12 عاما على اقامته ببغداد، في هذه الرواية تتداخل س ة المدينة بس ة شخوصها المثقف ، الذين يحملون افكارا متباعدة جدا، هكذا كان الحال فعلا في تلك الحقبة حيث تصارعت الافكار الشيوعية مع القومية، وتصارعتا مع موروثات المجتمع، وعاداته ودينه.
في هذه الرواية تتقاطع شخصية البطل جميل فران مع شخصية جبرا. بعد ربع قرن من كتابة الرواية، وبعد 3 او اربع سنوات من قراء لها، شيت لأول مرة في شارع الرشيد ببغداد، فكنت كمن يزوره للمرة الثانية، عرفت اك عن بغداد ومجتمعها ومعارف جبرا فيها من الفلسطيني والعراقي والعرب، واكاد اجزم ان بعض شخوص الرواية هم اشخاص حقيقيون، ور ا لهذا السبب نشرها بالإنجليزية قبل العربية.
شيت كث ا في شوارع بغداد ومن بينها شارع الام ات، الشارع الذي اخذ اسمه من منزلي الام ت بديعة وجليلة، والآن استحضر الشارع خطوة فخطوة وبيتا فبيت من خلال الجزء الثا من س ة جبرا الذاتية والتي اس ها "شارع الام ات".
لفت نظري في هذا الجزء الثا من س ته انه تعرف بالصدفة في بغداد الى الكاتبة الانجليزية اجاثا كريستي، التي باعت 2 مليار نسخة من 66 رواية بوليسية ألفتها، و ت ترجمتها الى 103 لغات، فضلا عن اع ل ومسرحيات اخرى، بينها مسرحية مصيدة الفئران التي كتبتها في العراق، وحققت الرقم القياسي كأطول عرض مسرحي.
جلس جبرا اليها وهي تغزل الصوف بصنارة، و يخطر بباله ابدا ان هذه السيدة كن ان تكون قد امسكت قل في حياتها، سألته عن فلسط ، وحدثها عن جرائم الصهاينة، وكانت تقول له: هذا كله يجب ان يعرفه العا نتهى التفصيل، كان جبرا ايامها يبث مع آخرين احاديث منتظمة باللغة الانجليزية عبر اذاعة بغداد عن هذه الجرائم مستصرخا الضم العالمي لمؤازرة شعبه.
اجاثا التقت في بغداد بعا آثار يصغرها بـ 13 عاما فتزوجته، وداومت على السفر معه الى بغداد، والموصل والقاهرة وحلب والبتراء والقدس وبيت لحم وغ ها، وهو ما انعكس في رواياتها: جر ة في قطار الشرق السريع، موت على النيل، جر ة في وادي الرافدين، جاءوا الى بغداد، ولؤلؤة الشمس حيث تحدثت عن البتراء، والموعد الغرامي حيث وصفت بدقة روعة بناء المسجد الاقصى وقبة الصخرة، وكذلك فعلت في روايتها نجمة فوق بيت لحم.
ومن طريف ما يروى، أنها كل كانت تسأل عن سر تعلّق زوجها بها وحبه لها كل تقدمت في العمر، وهي تكبره أصلاً فتجيب: إنه أمر طبيعي، فزوجي عا آثار يعشق الآثار القد ة.
25