Page 75 - nnn
P. 75

‫‪73‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

‫المتبقي من ساقه الذي كثي ًرا ما تهربت من النظر إليه‪،‬‬
  ‫حتى وهو موجود ما بين يدي بينما أخفيه في داخل‬
  ‫الشراب‪ .‬ربما لم أحتفظ في رأسي بصور ٍة واضح ٍة‬
 ‫للساق‪ ،‬بينما ملمس الشراب لم يخت ِف أب ًدا من يدي‪.‬‬
 ‫اعتدت أن أتحاشى النظر إلى الجزء المفقود من ساقه‪،‬‬
  ‫والذي لم أجد أي شيء آخر أتمكن من استبداله به‪.‬‬
 ‫فحتى محاولات الاستبدال تلك غالبًا لها مدة أو فترة‬
   ‫صلاحية‪ ،‬بعدها تصبح غير مجدية‪ .‬بعدها تباغتنا‬

‫الأشياء الأصلية التي استبدلناها كالوحوش الضارية‪،‬‬
   ‫تلتهمنا دون أن نقوى على المقاومة‪ .‬لا أعرف كيف‬
    ‫تمكن هو من تقبل الأمر‪ ،‬لكني فوجئت به في أحد‬
     ‫الأيام وقد تقبله‪ .‬بل أصبح يتعمد السخرية منه‬

  ‫كأنه مجرد خدش نتج عن حادث بسيط‪ .‬بدأ يخترع‬
   ‫قص ًصا وحكايات عن تلك الساق المفقودة‪ ،‬حكايات‬

      ‫يحكيها للغرباء‪ ،‬كأنه يتسلى‪ ،‬يحكي عن قصص‬
 ‫وبطولات وهمية في حروب خاضها‪ ،‬وأحيا ًنا حوادث‬
‫مريعة مر بها‪ ،‬قبل أن يفاجيء المستمع بضحكة عالية‬
  ‫تفلت من فمه دون أن تتناسب مع مأساوية المحكي‬
 ‫عنه‪ .‬متلذ ًذا نظرات الحيرة التي تملأ الوجوه‪ ،‬متخ ًذا‬
 ‫إياها كوسيلة لتزجية الوقت الذي يتباطأ عن التحرك‬

     ‫من حوله‪ .‬كأنه لا يمضي إلا في ساعة لها عقر ٌب‬
                                     ‫واح ٌد مثله‪.‬‬

‫لا أنسى أب ًدا المرة التي مازح فيها صاحب محل أحذية‬
 ‫مصم ًما أن يشتري منه فردة حذاء واحدة‪ ،‬وألا يدفع‬

   ‫سوى نصف الثمن‪ ،‬معل ًل الأمر بأنه لا يملك قد ًما‬
                             ‫أخرى للفردة الثانية‪.‬‬

   ‫قبل وفاته بثلاثة أيام كان يداوم على الاتصال بي‪،‬‬
   ‫يخبرني في كل مكالمة أنه يفتقدني‪ ،‬فأخبره بدوري‬
‫أنني أزوره كل يوم‪ ،‬ودون أن يعلق على كلامي‪ ،‬يكرر‬
   ‫فقط أنه يشعر بافتقا ٍد موحش‪ ،‬ليموت بعدها وهو‬
 ‫في حالة صحية جيدة ومستقرة إلى حد كبير‪ ،‬لأدرك‬
    ‫أنه لم يكن يعني افتقاده لي في الوقت الحاضر بل‬
  ‫كان يعني افتقا ًدا ما في المستقبل‪ .‬وربما كان يقصد‬
 ‫أنني أنا من ستفتقده وليس العكس‪ .‬لم أرث من أبي‬
   ‫قوته وهزائمه فقط‪ ،‬لكن ورثت عنه تسمية الأشياء‬

                     ‫بمسميات غير اعتيادية أي ًضا‪.‬‬
  ‫لا أعرف ما الذي ذكرني بكل تلك الأحداث بينما أنا‬
‫راقدة في هذا العجز الاستثنائي‪ .‬لازل ُت أحاول التذكر‪،‬‬

    ‫وأتساءل مع نفسي أين ذهب الجميع؟ أعتقد أنني‬
   70   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80