Page 86 - nnn
P. 86

‫العـدد ‪47‬‬                           ‫‪84‬‬

                                                               ‫نوفمبر ‪٢٠٢2‬‬

‫مصطفى النفيسي‬

‫(المغرب)‬

‫ورطة النادل‬

    ‫أفكر في النادل الآن‪ .‬أفكر في الرجل الذي كان‬                ‫قبل كورونا‪:‬‬
     ‫يرتدي نظارات طبية طيلة الوقت‪ .‬اعتقدت في‬
      ‫البداية أنه مطرود من مهنة مكتبية‪ .‬ربما لم‬    ‫أفكر في النادل الآن‪ .‬لا أحد من طبيعة الحال كان‬
     ‫يستسغ عجرفة رئيسه في العمل‪ ،‬ولم يحتمل‬         ‫يريد أن يكون ناد ًل‪ .‬هذا فقط لأن لا أحد فكر أنه‬
    ‫حديثه بصو ٍت عا ٍل يصم الآذان‪ ،‬وهو يتحدث‬         ‫سيتحول إلى شخص يتجه إلى إرضاء الآخرين‪،‬‬
      ‫طيلة الوقت مع عشيقته عبر الهاتف‪ .‬وربما‬       ‫دون التفكير في نصيبه من الإرضاء‪ .‬كل شخص‬
  ‫فقط يكون زميله الذي يشاركه المكتب قد دبر له‬     ‫يحلم في الطفولة بأن يكون خار ًقا‪ .‬فالأحلام سهلة‬
‫مكيدة ما من تلك المكائد التي تدبر عادة في مكاتب‬   ‫ج ًّدا إلى حد أنها تأتينا أي ًضا ونحن على قيد اليقظة‪،‬‬
    ‫الوزارات‪ ،‬والتي ينال أصحابها ترقية سريعة‪،‬‬
‫بينما ينال غرماؤهم عقوبة قاسية‪ ،‬تكون في غالب‬          ‫حينما يستغرقنا السهوم‪ ،‬وحيث لا نقوم بأية‬
     ‫الأحوال هي الطرد‪ .‬فكرت أي ًضا أنه قد يكون‬     ‫حركة‪ .‬الأحلام تكون دو ًما في متناول اليد‪ .‬لكنها‬
‫سليل عائلة ميسورة أصابها إفلاس مفاجيء جعل‬           ‫في الطفولة تكون شهية وملذة‪ .‬أحلام تتجول في‬
 ‫أفرادها يهيمون في الأرض باحثين في مدن بعيدة‬
 ‫عن مهن صغيرة يسدون بها رمقهم‪ ،‬وتقيهم من‬              ‫رؤوسنا مثلما تتجول براغي حديدية في جسد‬
                                                   ‫سيارة‪ .‬هاته الأحلام تفر هاربة بمجرد أن تتأكد‬
         ‫نظرات الناس الشبيهة بلسعات العقارب‪.‬‬       ‫أن صاحبها قد ودع أريكة الطفولة‪ ،‬ليبدأ صعوده‬
 ‫لكنه مجرد نادل الآن يقدم الطلبات لزبناء المقهى‪،‬‬    ‫البطيء الشبيه بصعود سيزيف‪ ،‬مع فارق وحيد‬
                                                    ‫هو أن سيزيف المعاصر قد اختار مصيره بيده‪.‬‬
   ‫ولا يفكر أب ًدا في ماضيه‪ ،‬ولا حتى في مستقبله‪.‬‬   ‫لم تحكم عليه آلهة ولا كلف بمأمورية في معسكر‬
   ‫إنه لا يملك الوقت للتفكير‪ .‬لقد استهلكه الشغل‬
    ‫على حد تعبير فريديريك نيتشه‪ .‬وفي أي شيء‬           ‫العدو‪ .‬هو عدو نفسه‪ .‬يمارس حروبه اليومية‬
                                                    ‫ضد نفسه باستمرار‪ ،‬وبدون تكتيك يذكر‪ .‬هكذا‬
      ‫سيجدي التفكير بالنسبة لنادل؟ ولكن أليس‬       ‫هو النادل‪ .‬لم يختر بذلته السوداء‪ .‬البذلة التي لا‬
‫التفكير هو ما يميز الإنسان مثلما ادعى ديكارت؟!‬     ‫تتغير إلا إذا غير مقر العمل‪ .‬أقصد إذا غير المقهى‬

                                                                      ‫أو المطعم اللذان يشتغل بهما‪.‬‬
   81   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91