Page 21 - مجلة التنوير - العدد الثالث
P. 21

‫المجلس‬                        ‫لجنة الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا‬       ‫المجلس الأعلى للثقافة‬

        ‫مجلــــــــــــــــة‬

        ‫وصـولاً إلـى المسـتقبل‪ .‬إنـه وحـدة الـذات والموضـوع؛‬                   ‫“ابـن خلـدون” المـؤرخ العربـي العظيـم يبحـث فـي‬
        ‫وحـدة الشـكل والمضمـون‪ ،‬ولكنهـا وحـدة ليسـت‬                                                           ‫أصـول التاريـخ‪.‬‬

        ‫مطلقـة أو أزليـة‪ ،‬تصلـح لـكل زمـان ومـكان‪ ،‬بـل‬                         ‫وإذا كان التاريخ يكتب من أجل إحياء الماضي‪،‬‬
        ‫هـي وحـدة ذات طابـع متكثـر‪ ،‬وحـدة ديناميـة ترفـع‬                       ‫وأن الحاضـر الـذي نعيشـه هـو أحـد عناصـر الكيـان‬
        ‫التناقـض بيـن مـا هـو كائـن ومـا ينبغـي أن يكـون‪.‬‬                      ‫العضـوي الـذي نسـميه الماضـي‪ ،‬فـإن الواقـع الـذي‬

        ‫إن الحقيقـة التاريخيـة حقيقـة ديناميـة‪ ،‬حركـة‬                          ‫نعيشـه الآن هو لحظة ممتدة يتناسـخ فيها الماضي‬

        ‫والحاضـر والمسـتقبل‪ .‬ويبـدو التاريـخ بذلـك ليـس تتطلـع إلـى المسـتقبل‪ ،‬ويجـب أن تحيـا وتنمـو حـرة‪،‬‬

        ‫منفصـاً عنـا‪ ،‬فهـو يتدفـق فـي شـ اريين الحاضـر لا أن تـأوى فـي القبـور‪ .‬والشـعوب والـدول يجـب أن‬

        ‫تحيـا فـي حركـة مسـتمرة‪ ،‬ذلـك أن حـالات السـكون‬                        ‫فـي صـور متعـددة‪ ،‬ويسـتمر تدفقـه وفًقـا لقـد ارت‬
        ‫فـي تاريـخ الحضـا ارت الإنسـانية هـي حـالات خمـول‬                      ‫الحاضـر وطموحـات المسـتقبل‪ .‬ولعـل المفكـر أو‬
        ‫وملـل وقصـور ذاتـي يحيلنـا إلـى جمـاد‪ ،‬ويفقـد‬                          ‫المـؤرخ صاحـب الحـس النقـدي هـو القـادر علـى‬
        ‫الشـعوب طاقاتهـا الخلافـة‪ ،‬فتجـف روحهـا وحياتهـا‪.‬‬                      ‫كشـف هـذا التدفـق بوعـي يقـظ‪ ،‬يحـرك ملكـة النقـد‬
                                                                               ‫ويبعـث الديناميـة التـي تمكننـا مـن تجـاوز الماضـي‪.‬‬
        ‫وأخيـًار فـإن تاريـخ الشـعوب يجـب أن يكـون‬                             ‫وفـى ضـوء ذلـك‪ ،‬فـإن الوعـي بالتاريـخ يكشـف‬
        ‫تاري ًخـا للأخـاق والقيـم‪ .‬وتاريخنـا الضـارب فـي‬
        ‫القـدم يحمـل منظومـة مـن القيـم النابعـة مـن نسـيج‬                                    ‫الطبيعـة الحقيقيـة لحركـة الواقـع‪.‬‬
        ‫الخبـرة الإنسـانية للشـخصية العربيـة؛ وذلـك لإيمـان‬
        ‫العربـي بـأن الحضـارة الصحيحـة إنمـا تـدار علـى‬                        ‫والإنسـان هـو الكائـن الوحيـد الـذي يعـدو دائ ًمـا‬
                                                                               ‫و ارء ذاتـه‪ ،‬وقـد خلقـه الله وبـه دافـع يدفعـه دائ ًمـا إلـى‬
            ‫محـور الأخـاق وعمـق الشـعور الدينـي(((*‪.‬‬                           ‫أن يتجـاوز – بعقلـه – الواقـع المباشـر‪ ،‬وإلـى أن‬
                                                                               ‫يعيـش بوجدانـه التاريـخ‪ ،‬فيهجـر الحاضـر ليعيـش‬
        ‫لقـد قَّربـت التكنولوجيـا فـي عصرنـا ال ارهـن‬                          ‫فـي الماضـي تـارة‪ ،‬ويهفـو إلـى المسـتقبل ويتطلـع‬
        ‫ك َّل عوامـل الُبعـد المـادي والجغ ارفـي‪ ،‬ولكنهـا لـم‬
        ‫تسـتطع أن تقـرب الأرواح والأنفـس‪ ،‬لـم تسـتطع نـزع‬                                                    ‫إليـه تـارة أخـرى‪.‬‬
        ‫الضغائـن والأحقـاد‪ ،‬وإطفـاء روح الانتقـام والعـداء‪.‬‬
                                                                               ‫وإذا كان الماضـي وسـيلة للوعـي التاريخـي‬
        ‫لقـد قامـت حياتنـا الماديـة علـى تكنولوجيـا غايـة‬                      ‫بذاتنـا الحضاريـة‪ ،‬ففـارق كبيـر بيـن الاهتمـام بـه‬
        ‫فـي النجـاح‪ ،‬فـي حيـن تئـن حياتنـا الروحيـة تحـت‬                       ‫والاسـتغ ارق فيـه‪ ،‬باعتبـاره المثـل الأعلـى الـذي‬
        ‫وطئـة الخـواء‪ .‬ومـع المـد العلمـي والتكنولوجـي‪،‬‬                        ‫تتحـرك مـن خلالـه ماهيتنـا الثقافيـة والحضاريـة فـي‬
                                                                               ‫المسـتقبل‪ ،‬لا يجـوز لنـا أن نبعـث الماضـي بـكل‬
                             ‫انحسـر الخطـاب القيمـي‪.‬‬                           ‫تفصيلاتـه ليكـون صـورة المسـتقبل المنشـود؛ لأن‬

        ‫بعـد أحـداث الحـادي عشـر مـن سـبتمبر ‪2001‬‬                              ‫التاريخ لا يكرر نفسـه‪ ،‬ليس ثمة رجعة إلى الو ارء‪.‬‬

        ‫التاريـخ – فيمـا نتصـور – ليـس مجـرد اسـتعادة ارتفعـت الأصـوات تعلـن عـن صـ ارع الحضـا ارت‬

        ‫((( ارجـع هنـا‪ :‬زكـى نجيـب محمـود‪ ،‬حصـاد السـنين‪ ،‬الحضـارة‬             ‫الواقـع وتفسـيره‪ ،‬بـل هـو عمليـة مسـتمرة مـن التفاعـل‬
        ‫العربيـة تجمـع بيـن الرؤيـة العلميـة‪ ،‬الجانـب القيمـى والوجدانـى‪.‬‬      ‫المتبادل‪ ،‬الحوار المسـتمر بين الماضي والحاضر‪،‬‬

                                                                           ‫‪21‬‬
   16   17   18   19   20   21   22   23   24   25   26