Page 83 - مجلة التنوير - العدد الثالث
P. 83

‫المجلس‬                        ‫لجنة الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا‬  ‫المجلس الأعلى للثقافة‬

        ‫مجلــــــــــــــــة‬

        ‫المعاصـر السـير علـى الطريـق العربـي القديـم؛ والفكـر الأوروبـي مسـاءلاته كلمـا أ ارد التسـلية فـي‬

        ‫أوقـات الفـ ارغ وكانـت أسـماء الأعـام والمذاهـب‬               ‫لتجـيء عصريتـه عصريـة وعربيـة م ًعـا؟ ويـرى‬
        ‫فـي التـ ارث العربـي لا تجيئـه إلا أصـداء مفككـة‬              ‫«أميـن العالـم» أن «زكـي نجيـب محمـود» أجـاب‬

        ‫علـى هـذا التسـاؤل بأكثـر مـن إجابـة واحـدة‪ ،‬بـل إن متناثـرة كالأشـباح الغامضـة يلمحهـا وهـي طافيـة‬

        ‫علـى أسـطر الكاتبيـن‪ ،‬ثـم أخذتـه فـي أعوامـه الأخيـرة‬         ‫هنـاك تناق ًضـا بيـن إجاباتـه المتعـددة (أميـن محمـود‬
        ‫صحـوة قلقـة‪ ،‬فلقـد فوجـئ وهـو فـي أنضـج سـنيه بـأن‬                ‫العالـم‪ ،1986 ،‬ص‪ ،5‬ص ص ‪.)16-14‬‬

        ‫مشـكلة المشـكلات فـي حياتنـا الثقافيـة ليسـت هـي‬              ‫والآن‪ ،‬لنتعمق في رؤية «زكي نجيب محمود»‬
        ‫كـم أخذنـا مـن ثقافـات الغـرب وكـم ينبغـي لنـا أن‬
                                                                      ‫يدعـو الفيلسـوف «إلـى الاتجـاه التوفيقـي مـا بيـن‬
          ‫نزيـد)‪( .‬زكـي نجيـب محمـود‪ ،2004،‬ص‪)5‬‬                        ‫التـ ارث وال ُمعاصـرة‪ ،‬وفـي مؤلفـه «تجديـد الفكـر‬
                                                                      ‫العربـي» يـرى فـي التوفيقيـة سـمة جوهريـة للعقـل‬
        ‫وهكـذا بعـد أن أعلـن فـي كتابـه الباكـر (شـروق‬                ‫العربـي كلـه قدي ًمـا وحديثًـا‪ ،‬وهـي الدعـوة للتوفيـق‬
        ‫مـن الغـرب) ‪ -‬أنـه لا خـا َص لنـا مـن تخلفنـا‬                 ‫بيـن التـ ارث الدينـي والعلـم‪ ،‬بحيـث نأخـذ مـن التـ ارث‬
        ‫الثقافـي‪ ،‬ولا أمـ َل لنـا فـي مواكبـة الغـرب إلا إذا‬          ‫مـا ينفعنـا ونرفـض منـه مـا لا ينفـع وكذلـك الأمـر‬
        ‫كتبنـا مـن اليسـار إلـى اليميـن كمـا يكتبـون‪ ،‬وارتدينـا‬
        ‫مـن الثيـاب مـا يرتـدون ونفكـر كمـا يفكـرون وننظـر‬               ‫مـن العصـر والتحديـث ننتقـي منـه مـا ينفعنـا‪.‬‬
        ‫إلـى الدنيـا كمـا ينظـرون ‪ -‬قطـع رحلـة شـاقة حتـى‬
        ‫أدرك أن الشـروق لا يمكـن أن يكـون مـن الغـرب‬                  ‫وقصـة مفكرنـا الكبيـر «زكـي نجيـب محمـود»‬
        ‫ولكـن مـن الشـرق‪ ،‬وأن بقـا َء الشـخصية العربيـة لا‬            ‫جديـرة بالحكـي‪ ،‬فمنـذ بـزوغ الفجـر إلـى إشـ ارقة‬
        ‫فـي ذوبانهـا وتقليدهـا لشـخصية أخـرى‪ ،‬ولكـن فـي‬               ‫الضحـى إلـى وهـج الظهيـرة‪ ،‬مـَّر مفكرنـا بثـاث‬
        ‫تعرفهـا قواهـا الذاتيـة وأسـلوبها المميـز‪ ،‬مـن هنـا‬           ‫م ارحـل فـي تطـوره الفكـري وتطويـره لمفاهيمنـا‬
        ‫اعتملـت فـي نفـس فيلسـوفنا الكبيـر «صحـوة قلقـة»‬              ‫الثقافيـة‪ ،‬فقـد بـدأ معاصـًار يغتـرف مـن ثقافـة الغـرب‪،‬‬
        ‫أو «حيـرة مؤرقـة» تبلـورت فـي صيغـة سـؤال ألـ َّح‬             ‫ثـم عـاد أصيـاً ينهـل مـن تـ ارث العـرب‪ ،‬إلـى أن‬
        ‫عليـه فـي أعوامـه الأخيـرة وكان السـؤال عـن فكرنـا‬            ‫انتهـى إالـى صيغـة تجمـع بيـن الأصالـة والمعاصرة‪.‬‬
        ‫العربـي‪ :‬كيـف يكـون عربًّيـا حًّقـا ومعاصـًار حًّقـا؟ أو‬
                                                                                  ‫(جـال العشـري‪ ،1998 ،‬ص‪)89‬‬
                      ‫كيـف يجمـع الأصالـة والمعاصـرة؟‬
                                                                      ‫وفـي مقدمـة كتابـه «تجديـد الفكـر العربـي»‬
        ‫وهـذا التطـور الجدلـي مـن الشـيء إلـى نقيضـه‪،‬‬                 ‫يحكـي عـن رحلتـه التـي يجسـد بهـا حالـة شـريحة‬
        ‫ومـن النقيضيـن إلـى المركـب منهمـا‪ ،‬هـو الـذي‬                 ‫كبيـرة مـن المثقفيـن العـرب‪( :‬هـو واحـد مـن ألـوف‬
        ‫طبـع «زكـي نجيـب محمـود» بطابـع المرونـة الفكريـة‬             ‫المثقفيـن العـرب الذيـن فتحـت عيونهـم علـى فكـر‬
        ‫والحساسـية الثقافيـة فـي التعامـل مـع ثوابـت التـ ارث‬         ‫أوروبـي‪ ،‬قديـم أو جديـد‪ ،‬حتـى سـبقت إلـى خواطرهـم‬
        ‫ومتغيـ ارت العصـر‪ ،‬وهـو الـذي طبـع كتبـه وكتاباتـه‬            ‫ظنـون بـأن ذلـك هـو المفكـر الإنسـاني الـذي لا‬
        ‫بطابـع الاهتمـام بهمـوم المثقفيـن‪ ،‬وهـذه الم ارحـل‬            ‫فكـر سـواه؛ لأن عيونهـم لـم تفتـح علـى غيـره لتـ اره‪،‬‬
        ‫الثلاثـة التـي عبرهـا المفكـر الكبيـر هـي التـي عبـرت‬         ‫ولبثـت هـذه الحـال مـع كاتـب هـذه الصفحـات‬
        ‫عنهـا كتبـه الرئيسـية‪« ،‬شـروق مـن الغـرب» ثـم‬                 ‫أعوا ًمـا بعـد أعـوام‪ ،‬الفكـر الأوروبـي د ارسـته وهـو‬
        ‫«الشرق الفنان» ثم «تجديد الفكر العربي»‪( .‬جلال‬                 ‫طالـب‪ ،‬والفكـر الأوروبـي تدريسـه وهـو أسـتاذ‪،‬‬

                                                                  ‫‪83‬‬
   78   79   80   81   82   83   84   85   86   87   88