Page 62 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 62

‫الكلمة إذن ليست نقيضًا للفعل ولا مقابًال له‪ ..‬إنها قد تكون فعًال أو‬  ‫ولقد كانت أشعار أحمد فؤاد نجم‪ ،‬وملحمة صلاح جاهين "على‬
‫لا تكون‪ ..‬ولا نظن أن الحكيم كان جادًا في البحث عن عمل يدوي‪...‬‬        ‫اسم مصر" وقصائد فؤاد قاعود وعبد الرحمن الأبنودي وسيد‬
‫ولعله كان انفعاًال أنساه أن جانبًا من الذي يجري في ساحات القتال قد‬   ‫حجاب وغيرهم من شعراء العامية المصرية‪ ،‬كبارًا وشبابًا‪،‬‬
‫شارك بقلمه في صنعه!! إن مشاركة الكتاب والفنانين في معارك‬             ‫الذين صاروا جيشًا عامًال في ميدان القتال بالكلمة‪ ،‬وكانت‬

                     ‫الحرية لا تحتاج إلى شواهد بحال من الأحوال‪.‬‬                               ‫الحرب هي كلمتهم الأولى والأخيرة‪.‬‬
‫ولأن موضوعنا طويل ومتسع‪ ،‬ويحتاج عملا علميا أكبر‪ ،‬فسوف‬                ‫وربما كان أحمد عبد المعطي حجازي ‪-‬من بين شعراء‬
‫نكتفي بالحديث عن الشعر ومدى تأثيره وتأثره بحالة الحرب التي‬           ‫الفصحى‪ -‬وخاصة في قصيدته الرائعة "شدوان" هو الذي‬
‫عاشت فيها مصر أياما من أمجد أيامها‪ ..‬ولعلنا نكتفي من شعرائنا‬         ‫شارك من موقع التقدم إلى الخطوط الأمامية في أعنف حوار‬
‫الكبار بثلاثة هم‪ :‬صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأحمد عبد المعطي‬
                                                                                          ‫شهدته مصر في أثناء حرب الاستنزاف‪.‬‬
                                                        ‫حجازي‪.‬‬       ‫وكان لطفي الخولي هو الذي قدم للسينما المصرية في "القاهرة‬
‫بالنسبة لصلاح عبد الصبور (‪)1981-1930‬؛ فقد قدم مجموعته‬                ‫‪ "68‬و"العصفور" رؤيا جديدة للشرخ الكامن في البناء‬
‫الشعرية "تأملات في زمن جريح" عام ‪ 1970‬التي تأمل فيها وضع‬             ‫الاجتماعي‪ ،‬ولكنه لن يحول دون صيحة الجماهير "حنحارب"‬
‫مصر قبيل حرب أكتوبر‪ ،‬وكتب مرثيته لعبد الناصر "الحلم‬                  ‫وسط حماستها المتدفقة في نهاية الفيلم‪ ،‬تلك الصيحة التي‬
‫والأغنية"‪ ،‬التي راح فيها يمسح الحزن عن الوطن‪ ،‬وقال فيها إن‬
‫مصر لم تمت وأنها تعيش‪ .‬وأن عبد الناصر لم يمت‪ ،‬فهو بعض من‬                                 ‫تطابقت بعد ذلك مع الواقع خارج السينما‪.‬‬
‫ثراها "بل قبضة منه تعود إليه‪ ..‬وهو خفق الروح يسري في تربها‪..‬‬         ‫وفي ظل هذا المناخ طلب توفيق الحكيم من وزير الثقافة آنذاك أن‬
‫"وأن مصر الولود نمته ورعته ثم استخلفته على ذراها‪ ،‬ثم اصطفته‬          ‫يهيئ له عمًال "يدوًيا" يناسب سنه‪ ،‬ويشارك به في معركة الشرف‬
                                                                     ‫بدًال من صناعة الكلمة التي يحترفها‪ ،‬والتي لا مكان لها في ساحات‬
         ‫لحضنها‪ ،‬وأن عبد الناصر صار أغنية ترفرف في سماها‪..‬‬           ‫القتال‪ ،‬كما ذكر نزار قباني أنه يتمنى لو أن شاعرًا أو كاتبًا عربيًا قد‬
‫وفي عام ‪ 1972‬كتب مسرحيته الشعرية "بعد أن يموت الملك" التي‬            ‫مات في ميدان القتال باحثًا عن لقطة شعرية أو روائية نادرة‪،‬‬
‫أهداها إلى الملكة الأسيرة‪ ،‬التي تستنهض شعبها ليحررها‪ ،‬وفي نفس‬        ‫وأضاف أن الأبطال الحقيقيين هم الذين يغيرون بالسلاح خريطة‬
‫الفترة ‪-‬قبيل الحرب مباشرة‪ -‬كتب قصائد ديوانه "شجر الليل" التي‬         ‫الوطن‪ ،‬واتهم الأدباء والفنانين بأنهم لا يعرفون الموت إلا في السينما‬
                                                                     ‫ولا يرون اللون الأحمر إلا في معارض الرسم‪ ،‬وهم هاربون من‬
        ‫امتلأت بتأملاته الليلية عن المدينة المتألمة ما جرى ويجري‪،‬‬
‫لحتى صار يتضرع "يا رباه! ارفع عنا هذا الزمن الميت"‪ ..‬ويتحدث‬                        ‫الجندية ويتفرجون على المعركة من الطابق العاشر! ‪.‬‬
‫عن سيدة الجوهر‪ ..‬الجوهرة الفرد‪ ،‬التي تلمع في مقبض سيف‬                ‫ولو صح رأي الحكيم واتهامات نزار لكان ذلك معناه أن حياتنا كذبة‬
                                                                     ‫كبيرة ويتعين على جميع المثقفين العرب أن ينتحروا‪ ...‬ومن الغريب‬
                  ‫سحري مغمد "ويستنهض هذا السيف أن يحارب‪..‬‬            ‫أن يقول الحكيم ذلك لأن أفكاره الجوهرية عن الفن تقول غير ذلك‬
‫وخلال السنوات من عام ‪ 1973‬وحتى عام ‪ 1977‬كتب صلاح عبد‬                 ‫في كل مؤلفاته‪ ...‬والخطأ هنا كامن في تصوير الكلمة كمقابل للفعل‪..‬‬
‫الصبور عددا من القصائد من وحي الحرب وما أعقبها‪ ،‬ونشرها في‬            ‫فمن أين يأتي التكوين العقلي والنفسي للجندي قبل دخوله الحرب؟‬
‫ديوانه "الإبحار في الذاكرة" الذي استهله برسالتين كتبهما في ‪8‬‬         ‫الفطرة أو الوراثة تمده بالاستعداد أو الموهبة‪ ،‬أما الاكتساب فيأتي‬
‫أكتوبر ‪ ،1973‬خاطب في أولاهما أول جندي رفع العلم في سيناء‬
‫"في تلك اللحظة العظمى‪ ..‬التي صنع فيها آية‪ ..‬وخط تاريخا"‪،‬‬                  ‫من الثقافة التي تصقله وتربيه بخبرة الحياة وتجارب الآخرين‪...‬‬
‫وخاطب الشاعر في القصيدة الثانية أول مقاتل قبل تراب سيناء‪،‬‬            ‫إن الكلمة التي تلقاها في البيت والمدرسة والصحيفة والراديو‬
‫وراح يسأله عما استطعمت شفتاه في القبلة الأولى‪ ..‬وعما قاله للرمل‬
‫الذي ثرثر في خديه وكفيه‪ ،‬وهو يقبل الأرض‪ ..‬ويذكر جابر‬                                 ‫والكتاب هي التي أنشأته على هذا النسق دون غيره‪.‬‬
‫عصفور في كتابه "رؤيا حكيم محزون‪ ،‬قراءة في شعر صلاح عبد‬               ‫إن الكلمة هي المسؤولة عن تكوين العقل والشعور داخل الجندي‬
‫الصبور" أنه حتى عندما وقعت الحرب وعبر الجيش إلى سيناء‬                ‫وبموجبهما تظهر الأفعال وردود الأفعال‪ ...‬والآلة أو السلاح الذي‬
‫حاملا بعض الأمل‪ ،‬فإن هذا الأمل سرعان كبلته العتمة‪ ،‬فلا يتبقى‬         ‫يستخدمه هي التعبير الصناعي عن إبداع علمي‪ ،‬والمقاتل يبدع‬
                                                                     ‫باستيعابه العقلي والوجداني لأحدث منجزات العصر التكنولوجية قبل‬
                 ‫سوى رماد الموت الذي تلقي به الحياة في الشعر‪..‬‬       ‫أن يبدع بدمه وشجاعته‪ ...‬فالقتال عمل اجتماعي أطرافه؛ أولها‬
                                                                     ‫العنصر البشري بوجهيه المادي والمعنوي‪ ،‬وثانيهما السلاح بنفس‬

                                                                                                 ‫الوجهين‪ ،‬والطرف الثالث هو القتال‪...‬‬

‫‪58‬‬
   57   58   59   60   61   62   63   64   65   66   67