Page 65 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 65

‫هذا التوجيه لا يغّير فقط محتوى الكتب المدرسية‪ ،‬بل يعكس رغبة‬         ‫هنا يتبدى التناقض في السرد الإسرائيلي‪ ،‬فمن جهة‪ ،‬هناك اعتراف‬
‫في التحكم في الذاكرة الجمعية لمجتمع يحكمه جيش‪ ،‬في تشكيل وعي‬         ‫بأن ثمة أخطاء قاتلة في الاستخبارات وفي تقديرات هيئة الأركان‪،‬‬
                                                                    ‫ومن جهة أخرى‪ ،‬يظهر ميل إلى تعليق المسؤولية على شخصيات‬
                                                  ‫الأجيال المقبلة‪.‬‬  ‫بعينها‪ ،‬رئيس الأركان دافيد إلعازر‪ ،‬قائد قيادة الجنوب شموئيل‬
‫فلو اعترف التعليم الرسمي بأن حرب ‪ 1973‬كانت جزئًيا ثمرة‬              ‫جونين‪ ،‬أو مدير الاستخبارات إيلي زعيرا‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ويتحّو ل النقاش‬
‫تصلب سياسي إسرائيلي‪ ،‬وعنجهية عسكرية‪ ،‬فإن ذلك سيقّو ض‬                ‫من تحليل آليات صنع القرار إلى جدل حول من أخطأ ومن انهار‪،‬‬
‫السردية التي تضع المسؤولية الكاملة على "المفاجأة العربية" أو على‬
‫إخفاق الاستخبارات‪ ،‬هنا يلتقي التعليم بالتاريخ والسياسة‪ ،‬لرسم‬                                  ‫في عملية ُتمزج فيها السياسة بعلم النفس‪.‬‬
‫ملامح الذاكرة الجمعية للإسرائيليين‪ ،‬فالمسموح والممنوع في السرد‬      ‫لا عجب إذن أن يتواصل الجدل في الكتب الإسرائيلية الجديدة التي‬
‫الرسمي‪ ،‬التاريخي والتعليمي‪ ،‬يحدد ما إذا كان المجتمع الإسرائيلي‬      ‫صدرت بعد خمسين عاًما من الحرب؛ لُتعيد رسم الخطوط بين‬
‫سيتعلم من الحرب بوصفها مأساة يمكن تجنبها‪ ،‬أم كقدر لا مفر منه‪،‬‬       ‫الغرور والواقعية‪ ،‬بين الخطأ البنيوي والخطأ الفردي‪ ،‬لكن الملمح‬
‫باستعادة رمزيات دينية يهودية تقود للاعتقاد بأن هذا "الشعب‬           ‫الأوضح هو أن الذاكرة الإسرائيلية ما زالت عالقة بين سرديتين‪:‬‬
‫المختار" قدره أن "ُيحارب" من "الأغيار"؛ ولذا ُتقدس دافعية القتال‪،‬‬   ‫الأولى تقول إن الحرب فضحت حدود القوة‪ ،‬والثانية تقول إن القدرة‬

                  ‫وُتزكي روح الإبادة في عقل اليهودي الإسرائيلي‪.‬‬                            ‫على "الصمود والتعافي" هي جوهر القصة‪.‬‬
‫في مصر؛ لم تخرج حرب أكتوبر من الوجدان؛ لأن الحرب تظل‬                ‫اليوم‪ ،‬داخل إسرائيل‪ ،‬يبدو أن هناك مزيًدا من الانفتاح "المحدود"‬
‫لحظة استثنائية تتجمع عندها معاني الوطنية والكرامة والانتصار‪،‬‬        ‫تجاه الوثائق والمحاولات الجديدة لإعادة كتابة بعض العناصر‬
‫في الخطاب الرسمي‪ ،‬وفي الاحتفالات السنوية‪ ،‬وفي الأعمال‬               ‫المتعلقة بملابسات الحرب‪ ،‬وتبعاتها‪ ،‬مثل دور القائد النفسي‪،‬‬
‫الدرامية والوثائقية‪ ،‬يظل عبور القناة هو الصورة المؤسسة‪ ،‬جنوٌد‬       ‫التحيزات الاستخباراتية‪ ،‬وكيفية اتخاذ القرارات في اللحظات‬
‫يعبرون المياه‪ ،‬يرفعون علم مصر على الضفة الشرقية للقناة‪،‬‬             ‫الحرجة‪ ،‬والنظرة إلى الآخر المصري والعربي‪ ،‬من خلال إعادة‬
                                                                    ‫تقييم العقائد المسبقة؛ كما أن النقاش العام في إسرائيل بات أقل مثالية‪،‬‬
                                            ‫يحطمون خط بارليف‪.‬‬       ‫وأكثر نقًدا ذاتًّيا‪ ،‬في خطابات الذكرى والسرد التاريخي‪ ،‬مع وعي‬
‫لا ُتروى الحرب هنا كمعركة معقدة مليئة بالأخطاء والقرارات‬
‫المترددة‪ ،‬بل كملحمة كبرى اختلط فيها العزم الشعبي بالبطولة‬                            ‫بأن المفاجأة المصرية قد كشفت عن ضعف عميق‪.‬‬
‫العسكرية‪ ،‬هذه الذاكرة الجمعية لا تقتصر على مصر وحدها؛ بل‬            ‫لكن في المقابل هناك من يحذر من أن الانغماس في هذه العناصر‬
‫امتدت لتشمل العالم العربي كله‪ ،‬حيث ُينظر إلى الحرب باعتبارها‬        ‫السردية قد ُيستخدم سياسًيا في إسرائيل‪ ،‬أو ُيستغل لتبرئة أخطاء‬
‫أول رد فعلي عربي حقيقي يكسر سطوة الجيش الإسرائيلي منذ‬               ‫تحّملها المستوى السياسي والعسكري الرسمي‪ ،‬وليس على مستوى‬
                                                                    ‫الشخصيات فقط‪ ،‬فهناك رغبة إسرائيلية في الحفاظ على هوية‬
                                                         ‫‪.1948‬‬      ‫الانتصار في ‪ ،73‬نعم؛ ترويج لـ "نصر" على المصريين‪ ،‬وإن كان‬

                                                                                                                              ‫جزئًيا‪.‬‬
                                                                    ‫تلعب المؤسسة الرسمية في إسرائيل دوًر ا مركزًيا في تحديد ما يقال‬
                                                                    ‫وما لا يقال‪ ،‬ما ُيدّر س وما ُينسى‪ ،‬فمؤخًر ا‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬وجهت‬
                                                                    ‫وزارة التعليم الإسرائيلية بعدم تدريس أن الحرب اندلعت نتيجة‬
                                                                    ‫رفض إسرائيل لمبادرة سلام مصرية‪ ،‬وهذا ما يكشف جانًبا بالغ‬
                                                                    ‫الدلالة‪ ،‬يتمثل في محاولة لإعادة صياغة أسباب الحرب كي لا ُيتَر ك‬

                                                                                               ‫انطباع بأن إسرائيل فوتت فرصة سلام‪.‬‬

‫‪61‬‬
   60   61   62   63   64   65   66   67   68   69   70