Page 70 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 70

‫روح أكتوبر… شعلة لا تنطفئ في وجدان مصر‪:‬‬

    ‫من ميادين القتال إلى ساحات العلم وبناء المستقبل‬

         ‫أ‪.‬د‪ .‬حامد عيد‬                                             ‫كاَن َصْو ُت ُمِض ّيِة الطائرِة ُيغاِلُب ُبَكاَء طفلتي‪ ..‬كاَنْت "َر ْضَو ى" لا‬
                                                                   ‫َتزاُل َتَتثاَءُب ِبَصْو ٍت َصِغيٍر َكاْلُحْلِم ‪َ ،‬تْح ِم ُلها َز ْو َجِتي‪َ ،‬و ِهَي َتْبِكي‬
‫وفي كل عام‪ ،‬مع حلول السادس من أكتوبر‪ ،‬يعود إلى الوجدان‬             ‫ِبَصْم ت‪َ ..‬أْر َبُعوَن َيْو مًا َفَقْط َفاِص َلًة َبْيَن َقْلَبْين‪َ ..‬بْيَن َو اِلٍد َر َأى َو ليَدَتُه‬
‫المصري ذلك اليوم العظيم عام ‪ ،١٩٧٣‬ليس فقط كذكرى لعبور‬              ‫لأّو ِل َمّر ٍة‪َ ،‬و َبْيَن َر ْح َلٍة اَل َتْعِر ُف َمَداها‪ .‬وُكْنُت َأْح ِم ُل ِفي َيِدي َحِقيَبًة‬
‫القناة‪ ،‬بل كذكرى لعبورنا نحن‪ ،‬أبناء ذلك الجيل‪ ،‬من حقل الألغام إلى‬  ‫َصِغيَر ًة‪َ ،‬و ِفي َقْلِبي َأْسِئَلٌة ُكْبَر ى في ذلك العام الذي أعقب النصر‬
‫حقل العلم‪ ،‬ومن خط بارليف إلى خطوط الأبحاث والمعرفة‪ .‬لم يكن‬         ‫مباشرة‪َ :‬كْيَف َتْتُر ُك َو طنًا َو ُأْسَر ًة َو ِط ْفَلًة ِلَتْذَهَب إَلى َمِديَنٍة َلْم َتَر َها‬
‫ذلك العبور مجرد مناورة عسكرية‪ ،‬بل كان عبوًر ا روحًيا وثقافًيا‬
‫واقتصادًيا‪ ،‬من الهزيمة إلى الكرامة‪ ،‬ومن الإحباط إلى الأمل‪ .‬ومنذ‬       ‫َقْط؟ كانت الإجابة تكمن في رحلتي التي بدأت من أرض المعركة‪.‬‬
‫ذلك اليوم ظّلت روح أكتوبر حاضرًة في الوجدان‪ ،‬وقوًدا لكل إنجاز‬
                                                                   ‫فبعد أن أنهيت دراستي الجامعية‪ ،‬كان نداء الوطن يعلو‪ .‬ففي تلك‬
                ‫علمي وثقافي وتنموي يحققه المصريون حتى اليوم‪.‬‬
                                                                   ‫الأيام‪ ،‬كانت الجندية َفْر ًضا مقدًسا على كل مصري قادر على حمل‬
                  ‫من ميدان القتال إلى ساحة العلم والفكر‬
                                                                   ‫السلاح‪ ،‬شرٌف ندافع به عن أرضنا‪ .‬لكن رؤية الدولة كانت أعمق؛‬
‫هذه الروح البطولية انتقلت من الخنادق إلى الجامعات والمراكز‬
                                                                   ‫فقد منحت طلاب الدراسات العليا والعلماء الناشئين فرصة لإكمال‬
                                                                   ‫دراستهم‪ ،‬مؤجلًة أداء الخدمة العسكرية حتى يحصلوا على درجة‬
                                                                   ‫الدكتوراه‪ ،‬ليكون عطاؤهم للوطن مضاعًفا‪ :‬بالعلم أوًال‪ ،‬ثم بالحماية‬

                                                                                                                   ‫إذا دعت الحاجة‪.‬‬

                                                                   ‫وهكذا‪ ،‬حصلت على الدكتوراه في عام ‪ ،1976‬بعد ثلاثة أعوام من‬

                                                                   ‫أعظم انتصاراتنا الحديثة‪ .‬لم تكن ثلاث سنوات من الزمن فحسب‪ ،‬بل‬

                                                                   ‫كانت ثلاث سنوات من الفخر والعزة‪ُ ،‬غرس فينا خلالها معنى جديد‬

                                                                   ‫للوطنية‪ .‬فالانتصار لم يكن مجرد استعادة أرض‪ ،‬بل كان استعادة ثقة‬

‫البحثية‪ .‬أصبح الباحث المصري يتعامل مع التحدي العلمي بروح‬           ‫الأمة بنفسها‪ .‬ثم حان وقت الوفاء بالوعد‪.‬‬

‫المقاتل على الجبهة‪ :‬بنفس دقة التخطيط‪ ،‬ونفس جرأة المبادرة‪ ،‬ونفس‬     ‫التحقت بالخدمة العسكرية الإلزامية لمدة عام كامل‪ .‬لم أكن جندًيا‬
‫الإصرار على تحقيق المستحيل‪ .‬استلهم الأساتذة والطلاب دروس‬
‫النصر ليضعوها في مشاريع بحثية ابتكارية وأفكار ريادية‪ .‬وهكذا‬        ‫عادًيا هذه المرة‪ ،‬بل جندًيا يحمل شهادة الدكتوراه‪ُ .‬كْنُت ُجْنِدّيًا في‬
‫تضاعف الإنتاج العلمي المصري وانتشر العلماء المصريون في‬             ‫ِفْر َقِة اْلَحْر ِب اْلِكيْم َياِئَّية‪َ .‬لِكَّن اْلُقْدَر َة َلْم َتُكْن ِلَتِض يَع‪َ ..‬فَبَدَل َأْن َأْح ِم َل‬
‫الداخل والخارج يسهمون في الطب والطاقة والعلوم الإنسانية‬            ‫ِسلاحًا في الميدان‪َ ،‬حَمْلُت َأَناِبيَب اْخ ِتَبار في المعامل العسكرية‪َ .‬بَدَل‬
                                                                   ‫َساَحِة اْلَمْعَر َكِة‪َ ،‬كاَن َمْخ َتَبُر اَأْلْبَحاِث ُهَو َساَحِتي الجديدة‪ .‬وكان رفاقي‬
   ‫والهندسة والتكنولوجيا‪ ،‬حاملين معهم شعلة أكتوبر التي لا تنطفئ‪.‬‬
                                                                   ‫في السلاح‪ ،‬جنود مصر الأشاوس‪ ،‬ينظرون إلّي بعين الإعجاب‬
                                                                   ‫والفخر‪" ..‬الُّدْكُتور" الَّصِغير اَّلِذي َلْم َيْنَس َقْط َأَّنُه ُجْنِدٌّي َأَّو ًال‪ .‬كانت‬

                                                                   ‫تلك هي القيمة العظيمة التي زرعها فينا نصر أكتوبر‪ :‬إن الوطن‬

                                                                   ‫ُيحمى بالسلاح وُيبنى بالعلم‪ ،‬وإن الجندية شرف لا ينتهي بانتهاء‬

                                                                   ‫المدة‪.‬‬

                                                                   ‫وبعد أن أكدت للوطن حبي له بالدم‪ ،‬منحني الحب في المقابل فرصة‬

                                                                   ‫لأمثله له بالعلم‪ .‬فبعد انتهاء خدمتي العسكرية مباشرة‪ ،‬حصلت على‬

                                                                   ‫منحة علمية إلى ألمانيا لمدة عشرة أشهر‪ .‬وهكذا وجدت نفسي في‬

                                                                   ‫مطار القاهرة‪ ،‬أغادر بجسِدي لكن قلبي يبقى بين أحضان ابنتي‬

                                                                   ‫وزوجتي ووطني‪.‬‬

                                                                   ‫لقد غادرت‪ ،‬وأنا أحمل في قلبي ذات الحلم الكبير الذي ملأ البلد بعد‬

                                                                   ‫العاصفة‪ :‬اْسِتْقَر اٌر َبْعَد َنْصر‪َ ..‬أَمٌل َبْعَد َعاِص َفة‪ .‬لأن روح أكتوبر لم‬
                                                                   ‫تكن مجرد نصر عسكري‪ ،‬بل كانت شحنة من الإرادة أعطت جيًال‬

‫‪66‬‬                                                                 ‫بكامله الجرأة على الحلم‪.‬‬
   65   66   67   68   69   70   71   72   73   74   75