Page 73 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
        P. 73
     هذا التوازن أضفى على النص صدًقا إنسانًيا ،وأبعده عن النبرة                                                       البناء الفني
الدعائية المباشرة التي طبعت كثيًر ا من كتابات تلك الفترة .وهو ما
أكد عليه الغيطاني أن النصر تحقق بجهود بشر حقيقيين ،لهم ضعفهم         تتميز الرواية ببنائها الفريد؛ إذ تجمع بين الوثائق الرسمية،
كما لهم قوتهم ،عاشوا كآبة الهزيمة وفرحة النصر ،وغيروا الواقع         والمذكرات ،والشهادات ،والسرد الروائي .هذا المزج يجعل القارئ
                                                                     في حالة تواصل مباشر مع الواقع ،فيشعر أحياًنا أنه يقرأ وثيقة
                              المعيش بالأمل والتخطيط والتضحية.       عسكرية ،وأحياًنا أخرى يشعر أنه يعيش تفاصيل حياة الجنود ،كما
                                    الأبعاد الرمزية والقيمة الأدبية  اعتمد الغيطاني على استخدام اللغة بطريقة مكثفة ،تحمل مسحة من
                                                                     الفخامة المستمدة من التراث العربي؛ ليمنح النص طابًعا ملحمًيا
تجاوزت الرواية حدود التوثيق المباشر لتلامس أبعاًدا رمزية أعمق.
فـ"الرفاعي" في النص ليس شخصية تاريخية فحسب ،بل رمزا                                                              يعكس عظمة التجربة.
للتضحية والفداء ،وصوتا للكرامة الوطنية التي استعادت حضورها
بعد سنوات من الانكسار في نكسة 1967م؛ وبذلك تصبح الرواية                                          شخصية "إبراهيم الرفاعي"
محملة بمعان كثيرة كالانتماء والهوية والوطنية والفداء .وقد أسهمت
رواية "الرفاعي" في ترسيخ ما يمكن تسميته بـ"أدب الحرب" ،وهو           تتمحور الرواية حول شخصية البطل "إبراهيم الرفاعي" ،قائد قوات
الأدب الذي يتناول المعارك والبطولات وما تخلفه من آثار إنسانية،       الصاعقة (قائد المجموعة  39قتال) ،الذي ُعرف بجرأته وشجاعته
ويسير جنبا إلى جنب مع التاريخ .وقد برع "الغيطاني" في أن يوازن        في تنفيذ عمليات نوعية خلف خطوط العدو ،استهدفت مواقعه
بين الصياغة الفنية الدقيقة والتوثيق التاريخي؛ مما جعل الرواية        ومخازنه؛ مما أصابه بالذعر ،وفي الوقت ذاته أكسب المقاتلين
مرجًعا أدبًيا وتاريخًيا في آن واحد أو يمكننا أن نقول إنها نموذج      المصريين روًحا معنوية عالية .كان يتمتع بصفات إنسانية عظيمة؛ إذ
للسيرة في أدب الحرب ،والسيرة هنا "سيرة غيرية" كتبها الغيطاني         اعتبر رجاله إخوته ،يشاركهم التعب والأمل؛ مما جعله قدوة طيبة
عن البطل الشهيد "إبراهيم الرفاعي"؛ فضلا عن أن أسلوبه التراثي         ونموذًجا للقوة والعزيمة والشجاعة؛ إذ يقول لجنوده في إحدى
الممزوج بالمعاصرة منح النص فرادة عن غيره من الأعمال التي             المرات التي تم كشفه من قبل العدو ،فطلب منه الجنود العودة؛
تناولت الحرب ،وقدمت رسالة مفادها أن التضحيات لا تذهب هباًء،          فرفض" :ومتى اتجهنا لعدو ،وعدنا من منتصف الطريق" (ص
بالإضافة إلى أنها ألهمت كّتاًبا آخرين لمواصلة الكتابة عن الحرب؛       ،)455ويصف طريقة اشتباكهم في الحرب "إن الالتحام يكون
كٌل من زاويته الخاصة؛ مما أسهم في إثراء المشهد الأدبي العربي؛        بالسلاح الأبيض ،ليس بالقصف أو الطيران أو المعارك التصادمية
ومنها على سبيل المثال لا الحصر :الحرب في بر مصر ،ليوسف               للدبابات" (ص  .)375خلال حرب أكتوبر  ،١٩٧٣خاض مع
                                                                     مجموعته معارك بطولية ،وأوقع خسائر كبيرة في صفوف العدو،
                                         القعيد ( )1978وغيرها.       حتى اسُتشهد يوم  ١٩أكتوبر في أثناء دفاعه عن أرض الوطن .ترك
وهكذا ،فإن روايات ما بعد حرب أكتوبر قدمت إسهاًما فنًّيا وفكرًّيا     "إبراهيم الرفاعي" سيرة خالدة وبطولات ُتدَّر س للأجيال؛ ليظل رمًز ا
كبيًر ا في الأدب العربي .فهي نصوص متعددة الأصوات ،تنوعت              للشجاعة والتضحية والفداء ،وهو ما جعل الغيطاني يستغل ذلك في
بين الملحمي والتأملي والنقدي ،لكنها اجتمعت على هدف واحد؛ وهو         تقديمه ليس بوصفه بطلا عسكريا فحسب ،بل بوصفه رمزا للإنسان
أن تجعل من الحرب حدًثا أدبًّيا فريًدا ،يتجاوز حدود المعارك إلى       المصري الذي يهّب للذود عن أرضه بصدق وإيمان وإخلاص،
آفاق أوسع تتعلق بالإنسان والمجتمع والُهوية .وإذا كان نصر أكتوبر      فضلا عن البطولة الجماعية التي أراد تحقيقها الغيطاني ،فعلى الرغم
قد أعاد للأمة كرامتها على الأرض ،فإن هذه الروايات قد أسهمت           أن الرواية تحمل اسم "الرفاعي" ،فإنها في جوهرها رواية عن
-بامتياز -في تخليد تلك الكرامة في صفحات الأدب؛ لتظل شاهدة            البطولة الجماعية؛ فكل شخصية في الرواية تؤدي دوًر ا في صياغة
على زمن التحولات ،ومرآة صادقة لروح أمة ما زالت تبحث عن               ملحمة النصر؛ لتتجلى صورة الجيش المصري بوصفه كيانا متماسًكا
       خلاصها ،وتحيا في ظل مجدها التاريخي وبطولاتها الحقيقية.                                                   يعّبر عن إرادة الشعب.
                                                                                                      البعد النفسي والإنساني
                                                                     من أبرز ما تميزت به الرواية اهتمامها بالجانب النفسي للجنود .فهي
                                                                     تكشف عن لحظات الخوف والقلق ،والحنين إلى الأهل والوطن ،جنًبا
                                                                                                   إلى جنب مع لحظات الإقدام والفداء.
69
     	
