Page 66 - مجلة فرحة مصر بعد النصر
P. 66
بعد مرور 52عاًماُ ،يطرح السؤال :كيف نتعلم من حرب قديمة ُتستعاد ذكرى حرب أكتوبر بوصفها لحظة فارقة أعادت تشكيل
في عالم تغير جذرًيا؟ فاليوم الحروب ليست نسًخا من ،1973وقلبت مسارات التاريخ والجغرافيا ،ورّسخت في الذاكرة الشعبية المصرية
التكنولوجيا العسكرية موازين الحسابات ،وانهارت التحالفات القديمة، والعربية رمزية العبور ،وفتح القناة ،واستعادة الكبرياء ،وصواًل إلى
وظهرت تحالفات جديدة ،وتتغير حدود الخريطة سريعا ،تتهاوى تدشين مسار السلام ،غير أّن هذا البعد الاحتفائي لا ينبغي أن يحجب
الرؤية عن النقد الذاتي ،وإعادة قراءة التجربة بما تحمله من إنجازات
قوى ،وتصعد أخرى. وإخفاقات على السواء؛ فقد كشفت الحرب عن ثغرات لوجستية،
ليست حرب أكتوبر مجرد فصل من الماضي المصري والعربي، وضعف في بعض التقديرات الميدانية ،وأفرزت تحديات فيما بعد،
بل عدسة نرى من خلالها الحاضر ،ونعاين تفاصيل المستقبل، مثل إدارة ملف الأسرى ،وإعادة إعمار سيناء المحررة ،وتحُمل
فإسرائيل التي تلقت صدمة عسكرية كبرى في ،1973لم تكف منذ الكلفة الاقتصادية والاجتماعية الباهظة ،كما أّن الأجيال الجديدة ،التي
ذلك الحين عن إعادة بناء قوتها ،وتطوير أجهزتها الاستخباراتية، لم تعاصر الحرب ،تطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الدروس
وتعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة ،لم ُتغير جوهر سياستها تجاه الأمنية والتخطيطية المستخلصة قد جرى توظيفها بفاعلية في بناء
الفلسطينيين والعرب ،الاعتماد على القوة المطلقة ،ورفض الاعتراف إستراتيجية مستمرة ،أم إنها بقيت حبيسة الخطاب الوطني أكثر مما
بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني ،والتحركات الحثيثة للتوسع تحولت إلى ممارسة عملية راسخة ُتعبد مسيرة الوطن؛ لأن التصور
الاستيطاني ،ومد الحدود طولا وعرضا ،لدولة لا تعترف بحدود لها، الذي يرى الحرب نصًر ا رمزًيا أو تراجيديا فقط بلا درس عملي
ومن ثم يجب الاهتمام بتحقيق دافعية للأمام ،بتحسين معالم الذاكرة
الجمعية ،وتأطير ملامح النصر عبر أبعاد حداثية ترتكن إلى التاريخ، ُيضعف القدرة على التعلم.
انتهت الحرب بوقف إطلاق النار لا بتحرير كامل الأراضي ،ومن ثم
لتعدل اعوجاجه ،وتحافظ عليها حاضًر ا فتًيا مستقبلا قوًيا. كان الإنجاز الأكبر سياسًيا؛ إذ فتح الباب أمام مفاوضات كامب ديفيد
ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية ،وبعيدا عمن رأى في ذلك
خيانة لروح الحرب؛ فهو استثماٌر ذكٌي للنصر الرمزي في صناعة
واقع سياسي جديد.
هناك وعي متزايد بضرورة إعادة تقييم التجربة بعيًدا عن المجازات،
بعبارة أخرى؛ في الذاكرة العربيةُ ،تروى حرب أكتوبر كنقطة تحول
نفسية وسياسية أكثر منها عسكرية ،لم ُتحرر الأرض كاملة حينذاك،
لكّنها حررت الروح العربية من عقدة الانكسار ،لم ُتغير موازين
القوى بشكل جذري ،لكنها أجبرت إسرائيل على الاعتراف
بالمصريين ،وعلى التفاوض ،لم ُتنِه الصراع ،لكنها أنهت مرحلة
الخوف والشلل ،ولهذا بقيت في الذاكرة بوصفها "الانتصار الممكن"،
الذي تحقق بالفعل على ضفاف القناة وفي العقول والقلوب.
بعد 52عاًما ،حرب أكتوبر ليست مجرد ذكرى ُتعاش ،لكنها مادة
لتحليلنا السياسي ،والعسكري ،والذاكرة الوطنية ،كٌّل يعيد قراءتها،
إسرائيل ومصر (والعرب عامة) ،إسرائيليا بالمزج بين العتاب
والتقدير للنصر الجزئي والدرس المر ،ومصرًيا كرمز استعادة
الكرامة ،لكن أيًضا كمختبر للتحديات التي ما زالت قائمة.
إذا أردنا استثمار هذه الذكرى لا في المجد فقط ،بل في التعلم ،فليكن
على أساس نقدي متوازن ومستند إلى أدلة ،لا إلى الخطابات
الأسطورية وحدها ،لعل من العبرة أن نستخدم الماضي كتذكرة
تحذيرية ،وأن ُنعيد بناء القدرات والمؤسسات ليس فقط كي لا تتكرر،
بل لنكون مستعدين لما قد يأتي ،في عالم سريع التغير ،تقنًيا
وإستراتيجًيا وسياسًيا واجتماعًيا.
62

