Page 255 - m
P. 255

‫‪253‬‬  ‫ثقافات وفنون‬

     ‫حوار‬

  ‫عشرات المحاولات‪ ،‬والاختناق‬          ‫خلا ًء شاس ًعا عثرت فيه على‬       ‫وتجربتي في الرسم‪ ..‬وأخي ًرا‬
 ‫بالخيال‪ ،‬والشعور بالخوف من‬         ‫لقى‪ ،‬وإشارات مرور ما زالت‬               ‫خلف موقفي الوجودي‪.‬‬
‫أن احتبا ًسا ما أصابك لا مخرج‬
                                      ‫شديدة الوضوح متناثرة في‬              ‫«سيرة الرماد» ليس كتا ًبا‬
             ‫منه‪ ..‬فمن يحميك؟‬            ‫الأرجاء‪ ،‬فما كان مني إلا‬       ‫لتأريخ شخصي‪ ،‬وإن وردت‬
 ‫«سيرة الرماد» أسست للضياع‬                                            ‫فيه أرقام لسنوات هنا وهناك‪،‬‬
 ‫وانبرت لتحميه‪ ،‬سجلته وأكدت‬            ‫أن أجمعها في مكان صغير‪.‬‬         ‫وصور شخصية عائليَّة‪ ،‬فهي‬
                                      ‫عمليًّا أفرغت ما يحيطني من‬        ‫مجرد إشارات ورموز تشير‬
      ‫عليه‪ ،‬عندما كنت في أمس‬          ‫شواهد وعلامات تدلني على‬         ‫إلى حقب تبدو كأنها جاءت من‬
 ‫الحاجة إلى العكس تما ًما‪ .‬عندما‬    ‫حياتي وعلى طريقي في البحث‬           ‫أزمنة غابرة‪ .‬ليس في الكتاب‬
                                    ‫عنها‪ .‬فاكتشفت حجم الضياع‬         ‫وصف للواقع‪ ،‬ولا حتى للمكان‬
     ‫نحصي ما بقي لدينا‪ ،‬يعني‬        ‫الهائل الذي يحتويني‪ .‬لم يكن‬       ‫الذي انبثقت فيه الأحداث‪ ،‬فكل‬
    ‫ضمنا أننا نسجل ما فقدناه‬         ‫مفاجئًا‪ ،‬فاعترفت بالفشل في‬        ‫مكان كان سحر ًّيا سرعان ما‬
                                   ‫أول صفحة من الكتاب‪ .‬الفشل‬
               ‫وضاع إلى الأبد‪.‬‬      ‫في استعادة حساسية الماضي‪،‬‬            ‫أغادره إلى آخر حالما ينتهي‬
        ‫لا زاوية آمنة خالية من‬        ‫استعادة الأصوات‪ ،‬الروائح‪،‬‬                         ‫السحر فيه‪.‬‬
 ‫الشظايا‪ ،‬في الحياة وفي الرسم‪،‬‬     ‫الألوان‪ ،‬المناخ‪ ..‬والناس‪ .‬لم يبق‬
  ‫يمكن الركون إليها‪ .‬ما أن تبدأ‬        ‫في ذاكرتي منها غير معاني‬           ‫ذهبت في الكتابة إلى ما هو‬
      ‫حتى تكرر بدايات أخرى‪،‬‬                                             ‫جوهري‪ ،‬الأمر الذي لا يبرر‬
      ‫فيتجدد شكك بالطمأنينة‪.‬‬                             ‫مجردة‪.‬‬          ‫الحشو والجسور‪ ،‬ولم أكن‬
      ‫حاول ُت في كتابي أن أجمع‬        ‫إن الأسئلة عن الوجود‪ ،‬كما‬         ‫مضط ًّرا للاستجابة لفروض‬
   ‫الحياة والرسم لكي أستطيع‬           ‫الأسئلة عن الرسم والكتابة‪،‬‬     ‫الشكل‪ .‬كان همي منصبًّا على ما‬
 ‫أن أجد ما يشبه السيرة‪ .‬عندما‬         ‫تبدأ في الاقتراب من بعضها‬       ‫يسحرني ويبقيني في الصميم‪،‬‬
  ‫أقرأ «البيوغرافي» الخاص بي‪،‬‬      ‫البعض‪ ،‬والبحث يصبح بحثين‬               ‫لهذا تحدي ًدا نجد في الكتاب‬
‫هذا الذي اعتاد جميع الرسامين‬         ‫متوازيين‪ ،‬وفيما أنت تمارس‬        ‫الكثير من التجريد‪ ،‬بل التجريد‬
  ‫وضعه في كتبهم الفنية‪ ،‬أشع ُر‬
 ‫بامتعا ٍض‪ ،‬فها هي سيرة خالية‬           ‫عملك الإبداعي سيقول لك‬                             ‫الخالص‪.‬‬
‫من اللحم والدم‪ .‬ما نفع كل هذا‬         ‫قرينك الغامض‪ :‬إنك ما زلت‬           ‫أمام الكتابة فواجه ُت حقيقة‬
    ‫التسجيل‪ ،‬وما لا يسجل هو‬           ‫في مدينة عبرتها أيام غربتك‬       ‫التشظي والتشرذم الذي ساد‬
   ‫ملكيتي الوحيدة ح ًّقا‪ ،‬الخفية‬   ‫التي طالت‪ ،‬وأن أسرارك جاءت‬           ‫سيرتي‪ .‬تما ًما وكأني أواجه‬
 ‫والمبعثرة التي أعجز عن لملمتها‬       ‫من مدينة أقدم منها لا مكان‬
                                    ‫لها الآن‪ ..‬من هي؟ لكنها كانت‬
                      ‫بسهولة؟‬       ‫في الحقيقة عشرات المدن التي‬
 ‫لا فخار في هذا التاريخ وأماكن‬      ‫رأيت فيها ظلي يمشي معي أو‬
                                     ‫يسبقني بخطوات‪ ،‬أو يختفي‪،‬‬
      ‫العيش‪ ..‬إنني أقف حائ ًرا‪..‬‬       ‫وشعرت بدوار‪ ،‬وحنين إلى‬
     ‫لكأني مارست حياة ليست‬        ‫الوطن والغضب منه‪ .‬المدن التي‬
‫حياتي‪ ..‬وكأني أتكئ على الهواء‪.‬‬
    ‫ليس من التواضع‪ ،‬بالعكس‪،‬‬               ‫علَّمتني المشي إلى الأبد‪.‬‬
    ‫هو من الطموح الذاتي في أن‬        ‫دائ ًما تلك الشظايا التي تمرق‬
 ‫أجد نفسي ح ًّقا‪ ،‬حقيقيًّا‪ ،‬خارج‬   ‫فيك وتنزف من أجل أن ترسم‬
  ‫الصيغ التاريخية‪ ،‬غير مجرور‬
 ‫ولا مدفوع من قوة في الخارج‪،‬‬            ‫وتكتب‪ ،‬أو تحاصرك لكي‬
 ‫في سيرة فنية تعبث بها الحياة‬      ‫تستغرق بتفكير حزين يوصيك‬
   ‫والبيولوجيا والزمن‪ ،‬مبعثرة‬     ‫بالفرار من المحترف‪ ،‬الإخفاق في‬
   250   251   252   253   254   255   256   257   258   259   260