Page 256 - m
P. 256

‫العـدد ‪57‬‬                           ‫‪254‬‬

                                     ‫سبتمبر ‪٢٠٢3‬‬

  ‫إذا فقد المرء وحدته‪ ،‬أو ساوم‬          ‫عنت‪ -‬المدن البعيدة والبحار‬          ‫في كل مكان‪ .‬ما الذي صنع لي‬
                         ‫عليها‪.‬‬      ‫والغابات والصحاري‪ ،‬والغرف‪.‬‬               ‫كل هذه الحياة والاختيارات‬
                                     ‫ولا أ َّدعي أن لد َّي أهم منها‪ ،‬لكن‬
     ‫كل ما أنجزته هو ما عثرت‬                                                ‫والمصادفات غير كسوة اللحم‬
    ‫عليه في تلك المرآة التي لم أ َر‬      ‫من حقي الإدعاء أن سيرتي‬           ‫والعظام والأعصاب‪ ،‬وشرايين‬
‫نفسي فيها ولا مرة‪ ،‬فلا يمكنني‬           ‫الحقيقية‪ ،‬التي صنعتني‪ ،‬هي‬          ‫الدم‪ ،‬ومنافذ الحس‪ ،‬وهذه التي‬
  ‫تحويلها إلى كائ ٍن آخر‪ ،‬والنظر‬      ‫خارج هذا الكتاب‪ ،‬وهي سيرة‬
                                     ‫قلب‪ ،‬والقلب بطبيعته بلا ذاكرة‪.‬‬             ‫أطلق عليها بوجع‪ :‬بلادي!‬
       ‫إليها كموضو ٍع خارجي‪.‬‬                                                  ‫أتساءل في هذا السياق‪ :‬ماذا‬
                                           ‫الآخر غير المرئي‪ ،‬الوحدة‬        ‫يمكن للمكان الأول أن يفعل في‬
      ‫أنت تكتب الشعر والقصة‬          ‫المتجذرة بك‪ ،‬الحزن النبيل‪ ،‬هذا‬          ‫حياة المرء؟ إنني ما زلت أراه‬
    ‫والرواية‪ ،‬وترسم وتبدع في‬                                                 ‫في أحلامي فأدرك أنني جئت‬
 ‫الجرافيك واللباد‪ ،‬تجرب في كل‬           ‫المثلث يمثل الخلطة السحرية‬         ‫من هناك‪ ،‬بل لع َّل بعض الشؤم‬
    ‫ذلك تقنيات متعددة يصعب‬             ‫والسر َّية لإبداع يحيى الشيخ‪،‬‬       ‫أمسك بي ما إن نزل رأسي إلى‬
 ‫حصرها أو تشابهها مع أحد أو‬                                                  ‫العالم‪ ،‬ربما بعض بركة دعاء‬
‫تكرارها‪ ،‬هل هذا يعني ‪-‬كما هو‬                     ‫هل أنا على صواب؟‬         ‫لامست شفاه أمي وهي تقذفني‬
‫واضح بالنسبة لي من إجاباتك‪-‬‬
  ‫أنك مسكون بشخو ٍص عديد ٍة‪،‬‬              ‫الإنسان على صواب لطالما‬                              ‫إلى الفراغ‪.‬‬
                                       ‫يشعر ويفهم الآخر وما يظهر‬           ‫«مسقط رأسه» يا لها من جملة‬
                                      ‫له بوضو ٍح ويدركه بعقل وا ٍع‪،‬‬        ‫رسميَّة وجود َّية‪ .‬ما الذي ترتب‬

                                          ‫حتى لو كانت وجهة نظره‬                            ‫عليها‪ ..‬حقيقة؟‬
                                         ‫سيئة‪ ،‬فأنت على صواب إذا‬           ‫حاولت في كتابي الأول «سيرة‬

                                           ‫أخذت بالاعتبار أني لست‬              ‫الرماد» الإجابة على هذا‪ .‬في‬
                                          ‫وحدي من يخفي في طيات‬              ‫الكتابة كما في الرسم‪ ،‬حاول ُت‬
                                        ‫إبداعه كائنًا غير مرئي‪ ،‬الكل‬          ‫أن أسحب فكرتي من منطقة‬
                                     ‫يخفي ما لديه‪ ،‬أرى لدى البعض‬            ‫العدم إلى منطقة الحاضر‪ ،‬غير‬
                                       ‫أكثر من واحد‪ ،‬وهذه معضلة‬               ‫أ َّن للحاضر فروضه وبنيته‪،‬‬
                                         ‫يستوجب عليهم حلها‪ ..‬من‬            ‫التي لا تسمح للمخيلة أن تبني‬
                                        ‫جانبي وفي أكثر من مناسبة‬
                                       ‫ظهر قريني بد ًل عني علنًا‪ ،‬في‬          ‫النسيان في الزمن الحاضر‪.‬‬
                                         ‫أكثر من عمل انتحل دوري‬                ‫فالمخيلة‪ ،‬بطبيعتها‪ ،‬تشتغل‬
                                       ‫وأنجز ما عجزت عن إنجازه‪..‬‬            ‫عكس الضياع‪ ،‬في الوقت الذي‬
                                       ‫كلانا يعتقد بفردانية وجوده‪،‬‬        ‫كنت أحتاج منها أن تشتغل معه‪،‬‬
                                      ‫لكنه في الفعل يرى من يشترك‬             ‫وباتجاهه‪ ،‬لترسمه بوضوح‪،‬‬
                                       ‫معه ويتابع خطواته وينتقده‪..‬‬            ‫وتحدد حجمه وسحنته‪ .‬لقد‬
                                     ‫الناقد الداخلي الإيجابي يرافقني‬        ‫كنت أنفخ في رمادي بحثًا عن‬
                                          ‫ويعيش معي‪ .‬وأعتقد لهذا‬               ‫جمرات اعتقد ُت أنى تركتها‬
                                         ‫السبب تأصلت الوحدة التي‬
                                          ‫ترينها‪ ،‬لا مناص منها‪ ،‬من‬                                ‫ورائي‪.‬‬
                                       ‫غيرها أفقد الكثير من نفسي‪،‬‬         ‫«سيرة الرماد»‪ :‬هي سيرة كائن‬
                                      ‫أفقد قريني‪ ..‬ألا يكفي أن يرى‬         ‫ذهني‪ ،‬سيرة مخيلة عثرت على‬
                                       ‫الكائن كائنًا آخر يحدق به في‬
                                        ‫المرآة؟ سيكون وض ًعا مرعبًا‬            ‫ذاتها القديمة وهي مبعثرة‪،‬‬
                                                                            ‫مقطعة الأوصال؛ لكن للمخيلة‬
                                                                            ‫معجزاتها‪ ،‬فقد استقطبت ‪-‬بلا‬
   251   252   253   254   255   256   257   258   259   260   261