Page 260 - m
P. 260

‫العـدد ‪57‬‬                      ‫‪258‬‬

                                  ‫سبتمبر ‪٢٠٢3‬‬

            ‫من مخطوطة المزامير‬      ‫في أغلب حالات الكتابة أنتهي‬   ‫أن تجربتكما الشعر َّية تتفقان في‬
                                  ‫إلى فهم أعمق لنفسي وللحياة‪..‬‬     ‫أن وراءهما مكونين أساسيين‪:‬‬
               ‫الوجودية فقط‪..‬‬     ‫وتبدو كل قصيدة تمرينًا لأجل‬     ‫السفر والترحال الدائم‪ ،‬والعمق‬
   ‫الشعر هو كل ما يبقى لدينا‬                                        ‫المعرفي المسنود بتأمل كبير في‬
   ‫عندما نخسر كل شيء‪ ..‬كما‬            ‫هذا اليقين الذي سرعان ما‬
                                     ‫يتزعزع في مجرى الأحداث‬            ‫الحياة‪ .‬فاذا كان بودلير قد‬
                        ‫كتب ُت‪:‬‬   ‫ويدفعك ضميرك لكتابة أخرى‬           ‫اعتبر القصيدة حل ًما وسح ًرا‬
         ‫إذا كان لا بد من ذلك‪،‬‬       ‫لدرء انهيارات العالم حولك‪.‬‬      ‫ونبوءة‪ ،‬وعرفها أنسي الحاج‬
  ‫فأنا أريد محكمة لا ريب فيها‬                                       ‫بأ َّنها عمل شاعر ملعون‪ ،‬كيف‬
                                          ‫الشعر معجزة الإنسان‬       ‫يع ِّرف يحيى الشيخ قصيدته؟‬
              ‫وأقول ما عندي‪:‬‬         ‫البسيطة‪ ،‬مثل كل المعجزات‪،‬‬    ‫وكيف يراها في المشهد الشعري‬
 ‫غادر ُت في الساعة المفتوحة بلا‬   ‫التي لا نعرف مصدرها‪ ،‬فتبدو‬
                                    ‫أنها جاءت من كل مكان‪ ،‬ولا‬                            ‫العربي؟‬
               ‫أبواب ولا رتاج‪،‬‬       ‫نرى أهدافها البعيدة‪ ،‬فتبدو‬
    ‫لفحتني ريح قار ٌص قطعت‬        ‫غير مرئية كليًّا‪ ..‬الشعر معجزة‬     ‫الشعر أكبر من الشاعر‪ ،‬أكبر‬
                                    ‫الإنسان الأرضي يقايض بها‬      ‫من النقد‪ ،‬والتأويل‪ ،‬والاعتبارات‬
                        ‫عنقي‪،‬‬        ‫القدر السماوي‪ ،‬يشبه تما ًما‬
    ‫فأخفيت رأسي بين الترقوة‬       ‫ما فعله “كلكامش” في صراعه‬          ‫والأحكام‪ ..‬لكنه لا مناص من‬
                                   ‫مع الثور“ خمبابا” وهو يغني‬       ‫قول شيء عما تعاني منه وما‬
               ‫والنحر؛ تحسبًا‪،‬‬       ‫الحياة والمجد‪ ،‬يقوم بمهمته‬
   ‫كان القماط الصوفي السميك‬                                           ‫يقلقك طيلة أيامك‪ ،‬ويطاردك‬
                                                                      ‫في أحلام يقظتك‪ ،‬ويبدو أنك‬
             ‫كفي ًل بما سيأتي‪،‬‬                                         ‫حسمت خياراتك مكر ًها أو‬
‫لطالما كفلتنا الأشياء‪ ،‬فنحن براء‬                                   ‫راضيًا‪ ،‬ثم اخترت أن تعبر عن‬
                                                                      ‫نفسك تحت طائلة إلحاحات‬
               ‫من سوء الظن‪..‬‬                                          ‫داخلية مثابرة‪ ،‬وأنت تعيش‬
                           ‫آه‪،‬‬                                         ‫يومك تتوقع أن تلتقي غدك‬
                                                                      ‫بطريقة مرضية‪ ،‬تجد نفسك‬
                                                                  ‫بحاجة إلى توضيح تلك اللحظات‬
                                                                    ‫التي صنعتك‪ ،‬تلك التي ملأتك‬

                                                                        ‫بيقين كينونتك التي تهرب‬
                                                                       ‫منك‪ ،‬وتحاول تفسير سبب‬
                                                                    ‫هروبها‪ ،‬أو تلك اللحظات التي‬
                                                                   ‫يدخل فيها التاريخ إلى أحلامك‬
                                                                    ‫في هيئة كابوس‪ ،‬فما من منأى‬
                                                                      ‫ولا مناص من الهرب اللذيذ‬
                                                                      ‫نحو الحياة حتى لو كان من‬
                                                                    ‫كوة قصيدة صغيرة لا تعرف‬
                                                                     ‫من فتحها في جدارك؟ وكيف‬

                                                                         ‫فتحت؟ ولماذا تعثر عليها‬
                                                                  ‫مفتوحة مرة وتجدها مغلقة عدة‬

                                                                   ‫مرات؟ فتتورط بتعريف لتنجو‬
                                                                             ‫من مطاردة السؤال‪.‬‬
   255   256   257   258   259   260   261   262   263   264   265