Page 109 - m
P. 109
107 إبداع ومبدعون
القصة
المؤلف الذي شعر أن قلوبنا لم تتمزق على أكاكي مكو ًنا من البيض واللبن ،أو غداء من الدجاج والأرز
أكاكوڤيتش -وهذا هو اسمه بالمناسبة -بالقدر الأبيض .إنهم يأكلون حساء الكرنب طوال العام،
الكافي ،لذا فقد قرر ألا يمتلك صديقنا هذا سوى
يأكلون البطاطس طوال العام ،يأكلون الخبز الأسود
معطف قديم مهترئ وقذر ج ًّدا ،وألا يفعل شيئًا في مع البصل طوال العام .ويسكرون طوال العام
حياته سوى ارتداء ذلك المعطف الممزق والذهاب
إلى العمل كل صباح ،والعودة مساء إلى المنزل، هؤلاء المساكين أي ًضا ،لأنهم مؤكد ،نتيجة لتكرار
شارد الذهن بردا ًنا ج ًّدا وجائ ًعا ،لا أصدقاء له، تناولهم لهذا الطعام الرديء وتعرضهم للسعات
لا أولاد ولا عشيقة سرية في مكان ما ،ولا حتى البرد القارس ،يشعرون بالتعاسة أكثر من سواهم.
زوجة تتشاجر معه كل صباح لأنه سكير لعين، حتى إنني أتصور أنهم أتعس من تلك الشعوب التي
فقد جرت العادة أن كل الرجال الروس سكيرون تتغذى على الأبراص والسحالي ،وتنهش رؤوس
لعينون ،وكل الزوجات بدينات منكوشات الشعر الفئران بأسنانها وهي حية ،فعلى الأقل ينعم هؤلاء
لا يتوقفن عن الصراخ في وجوههم ،وشتمهم بتلك بالدفء ،ويستطيعون اختيار أي عشاء شنيع
الشتائم الروسية الغريبة .شتائم كأنت يادودة أنت يتناولونه كل مساء بكامل إرادتهم.
ياقملة أو على الأقل هذا ما أخبرتنا به الروايات التي
حسنًا ،لنعد للرجل صاحب القصة .لقد كان رج ًل
قرأناها ،لكن ..لكن لماذا أحكي لكم قصة شخص طيبًا ج ًّدا أقرب ما يكون إلى ال َب َله .وأنا لا أفهم لماذا
آخر؟ لماذا أحكي لكم عن رجل مسكين يقتله يصر كل المؤلفين ،خاصة الروس منهم ،على إلصاق
القليل من البله بأبطال رواياتهم المتسمين بالطيبة،
البرد في روسيا حتى لو تصادف أن اسمه أكاكي ويصرون على إلصاق صفات مثل الذكاء والمهارة
أكاكوڤيتش -يا للغرابة -وأنا هنا الآن محاصرة والحنكة بالشريرين منهم .هذا الرجل الطيب ج ًّدا
طيبة تقترب من البلاهة ،لأن مؤلفنا القاسي بعض
تقتلني الوحدة والتعاسة والحاجة المجنونة إلى الشيء اختار لبطل قصته أن يكون كذلك ،وما دام
سيجارة ،في شرفة منزلي بالدور الرابع؟ وهذه
تفصيله أخرى نسيتها ،أو أغفلتها عامدة ،لأنها بدت كل منا لا يستطيع أن يكتب قصته بنفسه فليس
لي مجرد تفصيله زائدة لن تؤثر تأثي ًرا جد ًّيا في له حق التذمر أو الاعتراض ،على الصورة التي
مسار الأحداث في قصتنا هذه ،التي ليست قصة، يستطيع الخيال الشنيع للمؤلف أن يرسمها له،
بل هي نوع من الفضفضة اليائسة لفتاة غاضبة
ويعرضها على الناس بذلك البرود القاتل المعروف
ووحيدة. عن السادة المؤلفين الروس أكثر من سواهم .رجلنا
لم أجرب تطبيقات المواعدة من قبل ،ربما لو فعلت
هذا اعتاد أن يمشي في منتصف الطريق دون أن
لكنت أنعم الآن بصحبة شخص سيئ كزوجة ينتبه لسير العربات التي تجرها الأحصنة -ذلك
مصرية أصيلة ،أنتظر ليلة الخميس بشغف لأن القصة حدثت في روسيا القيصرية التي لم تكن
تعرف الكهرباء بعد ولا السيارات الحديثة -يدفعه
كالأخريات لأستيقظ صباح الجمعة بعظام مهشمة
وشعر مبلول ،وحالة من الرضا الغامض عن البعض أو يصطدم به دون أن يلاحظ ،ويقذفه
الأطفال بمختلف الأشياء الكريهة التي قد تصل
زوجي وعن العالم ،بد ًل من الجلوس معكم هنا إليها أيديهم الصغيرة ،دون أن يتذمر .يسخر منه
تقتلني طعنة الألم في قلبي وحاجتي إلى القليل زملاؤه في العمل بلا أي داع سوى أن المؤلف اختار
من الأنس وسيجارة .لكن القطة التي تموء كقطة أن يمزج شخصيته الطيبة بالقليل من البله لأسباب
وتلعق فراءها وتتمسح في قدمي كقطة ،ليست قطة. غامضة وشريرة وتخصه .والأسوأ من ذلك أنه
والفتاة التي تقعد في الشرفة الآن كفتاة وتتصرف جعل ردة فعله الوحيدة على كل أصناف المهانة
كفتاة وتحكي لكم كفتاة ليست بفتاة ،إنها مجرد تلك ،مجرد النظر إلى من يسخر منه من زملائه في
شبح غاضب لفتاة وحيدة ألقت بنفسها من نافذة العمل وهو يقول بصوت متوسل با ٍك وذليل :لماذا
شقة في الطابق الرابع في ليلة خميس ممطرة كهذه، تفعل هذا؟ أنا مثل أخيك .أنا مثل أخيك! المهم أن
وحتى الآن لا أحد يعرف لماذا .اسمي ليلى..