Page 59 - merit 50
P. 59
57 إبداع ومبدعون
قصــة
يلتفت أح ٌد إلينا أو يعيرنا اهتما ًما! ثبتوا الأجولة شاهدت عن قرب ِسر ًبا طوي ًل من سيارات النقل
في سيارتهم بالحبال قبل انطلاقها مسرعة ،بعدها الضخمة ،تتتابع الواحدة تلو الأخرى ،كل سيارة
ألفينا ساحة المحلج خاوية تما ًما ،صحراء جرداء،
يأتي دورها ،تتحرك ناحية جبال القطن ،تقف
وسراب حقيقي ،لكن مياهه آسن عفن! ساكنة حتى يفرغ الرجال من رفع أجولة القطن
خرجنا ناحية المحطة ،يغطي الطين جسدينا والطمي
عليها! يصعد بعضهم أعلى السيارة ،تخترق
وجهينا ،إحساس باليتم قاتل ،سقوط مد ٍّو في خطاطيفهم الأجولة ،يعيدون ترتيبها وتثبيتها ،ثم
فراغ كوني سحيق ،كأن الأرض لم تعد أر ًضا
صالحة للحياة ،بيد أن المحطة بقطاراتها الفاخرة تنطلق السيارة خارج المحلج!
حال بيني وبين حصر أعداد السيارات الواقفةُ ،بعد
والمسافرين جمي ًعا لم تضربهم القيامة بعد!
تشبث الجنين برحم أمينة ،أثقلها ،حتى بدأ المسافة وسطوع الشمس بعد ليلة ممطرة! بينما
يطرق بابه الوحيد إلى الدنيا! بينما نحن نسير رأيت الرجال ينتشرون كخلية نحل تعمل في صمت
كالمسحورين نحو مدينتنا الأثيرة «كفر الزيات»
وتحدي ًدا عند سور المحلج! جلسنا على رصيفه، ونشاط مذهل!
فشلنا في التسلل إلى الجرن ،أمسك الحراس بنا، حملت أمينة كل ما لدينا من طعام ،وسارت خلفي،
ثار أحدهم فنزع عني بطانيتي ،دفعني بعي ًدا عن انتقلنا بعي ًدا ،إلى الناحية الأخرى من المحلج ،جبال
القطن تتآكل يو ًما بعد يوم ،ونحن نرصد كل ساعة
البوابة! انحسار أجولة القطن ،فينخلع قلبي وتبكي أمينة في
صرخت أمينة من آلام المخاض ،هوي ُت على قدم
حرقة وقهر!
أحدهم أقبلها ،فلم يج ِد معهم توسل أو رجاء! في صباح أحد الأيام ،انهمرت السماء بالأمطار على
سقطت أمينة على الأرض؛ لم أجد غير بطانيتي، أجولة القطن القليلة ،انكشفت أرض المحلج ،فتحولت
فرشتها تحت «زوجتي» ،جرجرتها حتى وصلت إلى طبقة التراب السميكة إلى أوحال وبر ٍك من طين! لم
يعد أمام سيارة النقل الوحيدة سوى عدد يسير من
الجانب الآخر من المحلج.
تخيرت أضعف نقطة أسفل السور؛ جزء تشبع الشكائر لن تستغرق مع المطر ساعة واحدة!
بالرطوبة وماء المطر حتى تآكل تما ًما ،ضربته أخذ الرجال ينزعون الأجولة من أرض المحلج،
بزاوية حديدية ثقيلة عثرت عليها داخل أكوام بينما هرول ُت مع أمينة نختبئ خلف شكارة بعيدة،
ثم خلف الأبعد فالأبعد ،حتى حجبتنا عنهم آخر
القمامة المتراكمة بمحاذاة السور! شكارة قطن ،رأيتها صغيرة ج ًدا ،ننتفض خلفها فلا
لم يصمد السور طوي ًل أمام ضرباتي الضعيفة تسترنا! لست أدري أكنا ننتفض ضع ًفا وخو ًفا ،أم
المتتابعة؛ صنعت فجوة في السور ،لاح من خلالها نرتعد من شدة الصقيع وبرودة أسمالنا التي بللها
بوابة المحلج والغفر بظهورهم عند أقصى اليمين،
أكملت الفتحة ليتثنى سحب زوجتي من خلالها، المطر؟
كانت قد تنبهت لما يدور حولها ،وتتأوه بصوت رفع الأعداء آخر نوارة قطن نستتر خلفها! لم يكن
سه ًل على «أمينة» أن تتنازل عن جدار بيتها اللين
خافت!
في لحظات بلغت بها نهاية الجرن؛ عند زاويته الذي طالما راودها حلم أن يأتيها المخاض عنده
البعيدة عن أعين الغفر والناس .غرست حولها وتضع وليدها تحته! تشبثت أمينة بأظافرها في
ُشجيرات قطن قوية ،ثم جعلت من بطانيتي سق ًفا
متينًا يسترها! لحظات وبدأ مولودنا السعيد ينطح الجوال ،وعضت عليه بنواجذها!
الباب برأسه ،منطل ًقا دون صرا ٍخ ،كأنه َت َم َّه َل حتى الرجال اعتراهم الذهول ،تسمروا في أماكنهم ،لم
أن ُصب له عالمه الجديد! سميناه «السيد» ،أخذته يفهموا شيئًا ،لكنهم حاولوا إبعادها ،ظنًّا منهم أنها
مخبولة ،أمسك أحدهم بقدميها وانتزعها انتزا ًعا،
«أمه» في صدرها وراحت في نوم عميق!
فسقطت على الأرض!
رأيت لأول مرة أمينة كأنها شجيرة قطن تنبت من
جديد في أرض المحلج! احتضنتها ،بكينا كثي ًرا ،لم