Page 56 - merit 50
P. 56

‫العـدد ‪50‬‬   ‫‪54‬‬

                                                    ‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

    ‫النزوح عنه! ثم يأتي إل َّي الغفير بكوب شاي أو‬       ‫المحالج‪ ،‬ثم زحفت تدريجيًّا نحو البوابة ُمتلح ًفا‬
‫سندوتش فول‪ ،‬ثم أعود في المساء إلى أجولة القطن‪،‬‬        ‫بطانيتي‪ ،‬حتى سمح لي رجل الأمن بقضاء ليلتي‬

                          ‫لأغوص في نوم عميق!‬                                    ‫فوق جوالات القطن!‬
‫أثار ريبتي فتاة تحتل الرصيف على الناحية المقابلة‪،‬‬    ‫استلقي بين الأجولة؛ ما سر كل هذا الدفء؟ كيف‬
 ‫ليس لديها بطانية على كتفيها! تنظر ناحيتي دائ ًما!‬
                                                          ‫أنام لساعات رغم سطوع الشمس وحرارتها‬
                         ‫ماذا تريد هذه المعتوهة؟‬                                           ‫اللافحة؟‬
  ‫كنت أثناء النهار أطيل النظر إليها‪ ،‬وكانت جريئة‪،‬‬
‫تتعمد أن ترسل لي بعض الرسائل بعينيها‪ ،‬فأشعر‬             ‫أصبحت نزي ًل لهذا الفندق المجاني أثناء موسم‬
‫بالخجل‪ ،‬وأحاول أن أدفن رأسي بين ركبتي! حتى‬          ‫جمع الأقطان‪ ،‬بعد ستة أشهر تقريبًا يصبح المحلج‬
‫شعرت بالضيق منها‪ ،‬فرميتها بحجارة كانت قريبة‬         ‫خاو ًيا من القطن! يغمر الحزن قلبي‪ ،‬يدفعني الخواء‬

                                          ‫مني‪.‬‬           ‫والخلاء إلى الرحيل! أضع بطانيتي على كتف َّي‪،‬‬
‫ضحكت المجنونة! ثم لوحت لي بيدها كأنني مسافر‬           ‫أنطلق ُمستكش ًفا الأماكن‪ ،‬فلا أعثر على لين القطن‬

                                   ‫إلى بلد بعيد!‬                                    ‫أو دفء المحالج!‬
 ‫بصقت عليها؛ حاولت أن أجد حجارة أخرى قريبة‬               ‫في العام الماضي‪ ،‬وتحدي ًدا في سبتمبر‪ ،‬جرفني‬

    ‫من يدي فلم أجد غير حفنة من تراب‪ ،‬فقبضت‬                             ‫الحنين نحو المحالج والأقطان!‬
     ‫على التراب بيميني ثم قذفت بها نحو الفتاة في‬     ‫كنت يومها على رصيف محطة طنطا! عند الظهيرة‬
‫هواء ساكن لا يتحرك! سخرت مني‪ ،‬لوحت بكفيها‬
   ‫مرة أخرى‪ ،‬لكني لم أسمح لها أب ًدا أن تشاركني‬         ‫تزاحم الطلاب أمام أبواب عربات القطار المتجه‬
                                                           ‫إلى كفر الزيات‪ ،‬وشاهدت الطالبات يحتضن‬

                                                     ‫داخل صدورهن كتبًا وكراسات! أيقنت حينها بدء‬
                                                        ‫الدراسة‪ ،‬أي ًضا انقضاء النصف الأول من شهر‬

                                                     ‫سبتمبر! لأن أبناء الوجه البحري والدلتا يتأخرون‬
                                                    ‫أسبوعين دون بقية طلاب الجمهورية ليشاركوا في‬

                                                                    ‫جمع القطن المصري طويل التيلة!‬
                                                       ‫لا تستهجن فطنتي‪ ..‬ولا تستشعر القلق تجاهي!‬

                                                         ‫أنا لست مجنو ًنا أو مصا ًبا بمرض نفسي‪ ،‬ولا‬
                                                      ‫تنتظر سماع عبارات مبهمة مني! ما أنا إلا حطام‬
                                                    ‫رج ٍل محب ٍط‪ ،‬لا يكترث بالأشياء! مهموم‪ ،‬مهزوم‪ ،‬لا‬

                                                             ‫أنتظر سوى الموت أو القيامة أيهما أقرب!‬
                                                    ‫بلغ القطار مدينتي الأثيرة؛ اجتاز طوفان من البشر‬

                                                        ‫بوابة المحطة‪ ،‬بينما آثرت العبور إلى المحلج عبر‬
                                                        ‫فتحة كبيرة في سور المحطة‪ ،‬فهو لا يبعد كثي ًرا‬
                                                      ‫عن هذه الفجوة أو المحطة ذاتها! كم كان الخواجة‬
                                                       ‫اليوناني صاحب المحلج شديد الذكاء حين تخير‬
                                                    ‫موق ًعا عظي ًما بجوار قطار البضائع‪ ،‬وسعى لامتلاك‬

                                                                             ‫مساحات شاسعة منها!‬
                                                        ‫مرت أيام وأنا بين رصيف المحلج وبين الجرن‬
                                                        ‫المكتظ بأجولة القطن! أقضي ساعات النهار على‬
                                                    ‫الرصيف تحت آشعة الشمس وحرارتها التي تجبر‬
                                                    ‫الحشرات المقيتة التي استباحت جسدي على الفرار‪،‬‬
                                                     ‫ثم ألتقط بأظافري ما تشبث منها بجسدي ورفض‬
   51   52   53   54   55   56   57   58   59   60   61