Page 54 - merit 50
P. 54

‫العـدد ‪50‬‬   ‫‪52‬‬

                                                        ‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫علي حسن‬

‫أم َس ِّيد‬

     ‫بلغت ناصية حارتنا مخضبًا بدماء تفيض من‬                  ‫سنوات لا أعرف عددها منذ خاصمت دمنهور‬
   ‫جبهتي دون توقف؛ حاولت كتم الدم بكف يدي‪،‬‬               ‫وبيت «أم َسيِّد»‪ .‬سكان حي «البِ ْر َكة» يسمونها «أم‬
‫بينما يقف صديقي الوحيد «عاطف» أمامي مذهو ًل‪،‬‬
   ‫انتبه بعد برهة فأخرج من جيبه مندي ًل محلاو ًّيا‬         ‫َسيِّد الداية» رغم أن أختي «زينب» تكبره بخمس‬
    ‫وضعه على جبهتي قائ ًل‪« :‬مبروك يا علي‪ ..‬أنت‬              ‫سنوات‪ ،‬وتكبرني بعشرة‪ ،‬وهي ساعدها الأيمن‬
  ‫نجحت! جبت تمانين في المية! طب يا ابن الداية!»‪.‬‬        ‫وأحيا ًنا الأيسر أي ًضا في توليد نساء «البِ ْر َكة»‪ ،‬ختان‬
‫ضربني الوجوم طوي ًل‪ ،‬ربما لساعات! فكيف أخبر‬                 ‫بناتهن‪ ،‬تزويجهن‪ ،‬إجهاضهن وسترهن إذا لزم‬

      ‫«أم سيد» بنتيجتي؟ لن تدعني أدرس الطب؟‬                                                       ‫الأمر!‬
‫في المساء؛ دخلت عليها ُمطأ ِطئًا الرأس‪ ،‬ك َمن أمسكه‬      ‫أما «السيد» فقد « َه َّج» إلى الإسكندرية بعد رسوبه‬

                 ‫الجيران متلص ًصا على زوجاتهم!‬             ‫في «البكالوريا»‪ ،‬هناك تطوع في القوات البحرية‪،‬‬
     ‫قبضت «أم سيد» على علبة سجائرها وسحبت‬                ‫ولم نره سوى مرة يتيمة‪ ،‬جاء ليستكشف أحوالنا‪،‬‬
   ‫سيجارة؛ بصقت بصقة أصابت تما ًما ركنًا بعيد‬             ‫أو بالأحرى كي يتشاجر مع أمه‪ ،‬ثم يسب لسانها‬
      ‫عنها‪ ،‬لكنه الأقرب إل َّي! بطلة العالم في النشان‬    ‫البذيء وغلظة قلبها‪ ،‬وبعد لحظات َح َّن «السيد» إلى‬
‫والشتيمة‪ ،‬مسحت شفتيها بطرف جلبابها ثم قالت‪:‬‬
‫تعال يا خايب يا ابن الخايب‪ ،‬لحد كده كفياك تعليم!‬                                          ‫الهروب ثاني ًة!‬
  ‫لم أستطع التنفس‪ ،‬كأن نعيقها أجبر هواء غرفتها‬          ‫فتح «ال َّسيد» باب الشقة على مصراعيه بضربة قدم‬
   ‫على الفرار! ساق َّي تنصهران‪ ،‬جسدي كله تحول‬
 ‫إلى كتلة من ثلج‪ ،‬أذابها جو ملتهب خانق! تهشمت‬               ‫جبارة؛ قاف ًزا على درجات سلم خشبي ُمهترئ!‬
  ‫أعصابي فلم أعد قاد ًرا على الصمود أمام جبروت‬             ‫بينما جناحي الباب يقتربان ويتباعدان كالمروحة‬
‫امرأة تصرخ دائ ًما‪ ،‬انتبهت إليها فجأة تقول في تح ٍد‬         ‫من شدة رفسته‪ ،‬لاحقته أمه بصراخها الجشع‪:‬‬
                                                         ‫«سيب لي علبة سجايرك يا ابن الكلب!» فسمعنا في‬
                                         ‫جبار‪:‬‬
        ‫‪ -‬عايز تبقى دكتور يا ابن الكلب؟ بعيد عن‬                     ‫الطابق الثالث سبابه عند باب الشارع!‬
  ‫شنبك! أنا دكتورة يا عرص من غير شهادات ولا‬                 ‫آثر ُت حينها الانزواء بعي ًدا عنها؛ دون أن أفارق‬
                                                          ‫حجرتها‪ ،‬حيث يجلس المذياع على الرف في شموخ‬
                                     ‫مصاريف!‬                 ‫ووقار بعي ًدا عن أيدينا! كنت انتظر نتيجتي في‬
        ‫‪ -‬يامه‪ ..‬خليني أكمل َعلامي أبوس رجلك‪.‬‬                ‫امتحان «البكالوريا» التي ُت َب ُّث عبر أثير الإذاعة‬
 ‫‪ -‬يفتح الله‪َ ..‬علا َمك بشقاك يا شحط‪ ،‬مش بشقايا‬
                                                                                               ‫المصرية!‬
                                    ‫وحياة أمك!‬               ‫اقتربت من الراديو معتم ًدا على الحائط المتآكل‪،‬‬
                                  ‫‪ -‬منين يامه؟‬
 ‫‪ -‬اشتغل يا ِج ِع ّر! ُب ْص‪« ..‬أنا لا طايقاك ولا طايقه‬         ‫مصغيًا إلى صوت المُذيع يردد أرقام جلوس‬
                          ‫وش اللي جابك‪ ،‬غور!»‪.‬‬          ‫الناجحين في التوجيهية‪ ،‬لكنها في لمح البصر رشقت‬
                                                        ‫ُقبقابها في جبهتي‪ ،‬فانخلع قلبي! انقضاضها مفاجئ‬
                                                        ‫وشرس دائ ًما‪ ،‬ولولا هجم ُتها ما فارقت المذياع فا ًّرا‬

                                                                                              ‫أنا الآخر!‬
   49   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59