Page 55 - merit 50
P. 55

‫‪53‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

   ‫في ليلة شتوية باردة‪ ،‬داخل محطة سيدي جابر‪،‬‬         ‫مرتان في يوم واحد؛ مالت العجوز المترهلة‪ ،‬مكتنزة‬
‫المغطاة بأسقف عالية‪ ،‬ومع هذا لم نستطع الاحتماء‬       ‫الشحم‪ ،‬سميكة اللحم‪ ،‬نحو قبقابها‪ ،‬التقطته وقذفته‬
‫من المطر! لقد تمكن رجال الشرطة من إلقاء القبض‬        ‫في غمضة عين‪ ،‬بكل ما في يمينها من قوة‪ ،‬مدعوم ًة‬
‫على كل المشردين داخلها! كيف استوعب «البوكس»‬
                                                          ‫بغيرة منقطعة النظير وحق ٍد ناد ٍر لن تعثر على‬
               ‫الضيق هؤلاء المشردين من البشر؟‬                                  ‫مثليهما داخل كيان أم!‬
   ‫أغلب المدن والقرى استقبلتني فاتحة ذراعيها كي‬
                                                     ‫بارعة في الغدر واقتناصه؛ إلا أني لم أتوقع هجو ًما‬
     ‫أغمض في كنفها عين َّي ويستريح على أرصفتها‬       ‫كالبرق في هذا التوقيت أب ًدا مهما بالغ ْت في قسوتها‬
     ‫الرحبة جسدي المنهك‪ ،‬ساعات من نهار شديد‬
                                                       ‫وشذوذها! عبر القبقاب المسافة التي تفصل بيننا‬
                     ‫الحرارة أو ليل بالغ البرودة!‬         ‫كالصاروخ‪ ،‬رشق في أنفي وفمي! لم أشعر إلا‬
     ‫لم أر تفاصيل وجهي قط‪ ،‬وهل مثلي يحتاج إلى‬
‫استرجاع تفاصيل وجهه؟ أو يرغب في حساب أيام‬            ‫بصوت ينفجر مني كامرأة تعاني آلام المخاض! ألم‬
 ‫أو شهور وسنوات ربما مرت عليه؟ استشعر فقط‬               ‫وصراخ أفضيان إلى غيبوبة لم أفق منها إلا بعد‬
   ‫شعر رأسي الذي استطال‪ ،‬أفزعني حين وجدته‬
  ‫مجدو ًل ملب ًدا! متشاب ٌك مع لحيتي‪ ،‬امتزجا فطغى‬     ‫وق ٍت طوي ٍل لا أعرف مقداره‪ ،‬حينئذ وجدت جارتنا‬
 ‫ك ٌل على الآخر! جسدي النحيف أمسى تربة خصبة‬            ‫الطيبة «سكينة» تحتضن رأسي داخل صدرها في‬
    ‫يرتع فيها القمل والبراغيث‪ ،‬استوطنته فطريات‬
     ‫شرسة! كيف تحولت بشرتي إلى سواد ُمغطى‬                                               ‫حنان بالغ!»‪.‬‬
      ‫بطبقات من الطين المقزز بعد بياض ونعومة؟‬                 ‫جارتنا وحيدة‪ ،‬لا زوج لها أو ولد‪ ،‬تركت‬
‫الانتقال من مدينة إلى أخرى لم ينت ِه؛ لكني أحسست‬       ‫الإسكندرية واستأجرت غرفة في الطابق الأرضي‬
  ‫بالألفة في كفر الزيات! تحدي ًدا عند محالج القطن‪،‬‬        ‫عند «أم سيد»‪ .‬أطفال «البِركة» يحاولون دائ ًما‬
     ‫التي تحتل أطراف البلدة‪ ،‬حيث الدفء والهدوء‬         ‫إثارتها دون دا ٍع‪ ،‬هم يعلمون عشقها للإسكندرية‬
                                                       ‫رغم رحيلها عنها‪ ،‬يسبونها‪« :‬إسكندرية وسخة»‬
                                 ‫والنوم العميق!‬          ‫ثم يفرون‪ ،‬ومن بعيد يقذفونها بالحجارة! تثأر‬
    ‫لم أعر الغطاء اهتما ًما ُيذكر؛ فقضاء ليلة شتوية‬    ‫هي لمدينتها فتسبهم‪« :‬الوسخة هي بلدكم يا ولاد‬

       ‫باردة‪ ،‬ترقد فيها منكم ًشا‪ ،‬كفيل بأن يجعلك‬                                            ‫الكلب!»‪.‬‬
‫تستيقظ متلح ًفا بطانية ربما تكون جديدة ذات وبر‪،‬‬         ‫تأملت خالتي «سكينة»؛ عيناها‪ ،‬قسمات وجهها‪،‬‬
                                                     ‫أمومتها‪ ،‬تمنيت تقبيل يدها القابضة على البن‪ ،‬تكتم‬
                  ‫تستمتع تحتها بليل دافئ حالم!‬          ‫به جرحي النازف‪ ،‬بعد أن أ َب ْت «أم سيد» منحها‬
   ‫بطانيتي تصاحبني لي ًل ونها ًرا أثناء هجرتي من‬
   ‫مدينة إلى أخرى‪ ،‬بل قل من دولة إلى أخرى! فكل‬                       ‫قلي ًل من ُبنِّها‪« :‬وأنا أشرب إيه؟»‪.‬‬
‫مدينة في مصر تختلف في عاداتها وطبائع أهلها عن‬          ‫انت َبه ُت في هذه اللحظة إلى استحالة البقاء مع هذه‬
                                                       ‫المرأة؛ توكأ ُت على كتف خالتي «سكينة» النحيف‪،‬‬
         ‫غيرها من المدن‪ ،‬كأنها دولة قائمة بذاتها!‬      ‫نهضت معتم ًدا على الحائط رأفة بجسدها النحيل‪،‬‬
‫سنوات مرت؛ مؤكد أنها سنوات طويلة‪ ،‬فما مر عليَّ‬        ‫مان ًحا بعين َّي قبلة شكر على جبهة «خالتي سكينة»‬
                                                       ‫التي استقبلتها بدمعة منهزمة‪ ،‬دفعتني كي أقاوم‬
  ‫يستحي َل أن يكون بضع شهو ٍر أب ًدا! تغيرات فجة‬
   ‫أصابت الأشياء من حولي‪ ،‬كأنما القيامة ضربت‬                ‫الألم وصعوبة الهبوط على السلالم الخشبية‬
                                                      ‫العتيقة‪ ،‬وخرجت من الحارة بعد سقوط ونهوض‪،‬‬
                        ‫الأمكنة والأزمنة والبشر!‬
      ‫أسيح في الأرض‪ ،‬أقضي شهو ًرا بين قضبان‬                          ‫عاز ًما ألا أعود إلى هذا البيت أب ًدا!‬
‫القطارات والعربات والأرصفة‪ ،‬ثم أعود إلى مدينتي‬       ‫اتخذت من محطات السكك الحديدية مأوى وملا ًذا‪،‬‬
      ‫الفاضلة «كفر الزيات» حيث الأجران واسعة‪،‬‬
    ‫الأقطان بيضاء ناصعة‪ ،‬أجولتها ضخمة دافئة!‬           ‫أنتقل من دمنهور إلى المنصورة‪ ،‬أتوجه بعدها إلى‬
      ‫جلست في البداية على رصيف قريب من أحد‬                ‫طنطا‪ ،‬أغادر بعد أيام إلى كفر الدوار‪ ،‬أعود من‬

                                                        ‫بركة السبع إلى إيتاي البارود‪ ،‬بينما لم أم ِض في‬
                                                       ‫أبي حمص وقتًا طوي ًل‪ ،‬رجعت سري ًعا إلى طنطا!‬
   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59   60