Page 101 - merit 38 feb 2022
P. 101
99 إبداع ومبدعون
قصــة
لم يعد هناك مواقيت للشروق والغروب ،ولا الليل
والنهار ،ولا أعمار الناس ،فكل شيء كان يأخذ
شكل السيلان ..عجوز يصغر ..امرأة حامل تلد
رج ًل ..غابة تشيخ ..جسر مقعر ..ثم توقف كل
شيء وراح يبتلع نفسه ،وعيون الذبابة تكبر
وتكبر ..وتلاحقني كوحش مرعب وأنا أهرب وكأن
ذلك هروبي الأول.
قلت يومها لأمي إني رأيت كابو ًسا ..قالت لا تروه
يا ابنتي :بل قولي ثلاث مرات «تف من تمي تف»..
ثم اسحبي هواء جملتك واطمريها في التراب.
لم أفهم يومها واحتجت حضنها ،غفوت بقربها،
وحين انتفض جسدي من الخوف لي ًل وجدتني في
غرفتي وحيدة في سريري .يبدو أن والدي حملني
في نومي للسرير ونام جنب والدتي ،قلت وقتها
بحزن إن والدي أي ًضا رأى ذبابة كبيرة.
راحت لعنة الوقت الذي دفنته تلاحقني بأعين ذبابة
وبضجيج أزيزها ،لعنة بلبوس الضجر والملل ،فلم
أكن أحتمل الأصوات ،وأي مكان هو ضجة لحين
عودتي لغرفتي ،أغلق باب الغرفة ثم يسود صمت
له ضجة من نوع آخر ..ضجة السؤال «ماذا بعد؟».
كبر ُت وكبر ْت رداءات الغربة التي لبستها ..كنت
أبكي من المطر والشمس والرياح والأعاصير ،في
السماء الصافية وتحت شجرة الصنوبر قرب
بيت جدي ..كم لجأت إليها وكلمتها في مراهقتي
وأخبرتها أنها زيارتي الأخيرة لها ..ثم أبرر
وجودي معها ثانية وثالثة أ َّن معلمة الديانة روت
لنا عذابات القبر ،وأنك تموت كاف ًرا لو قتلت نفسك،
وأخبرت شجرة الصنوبر ،لم أ ُك أنا من يدفعني
للغياب ،إنه سؤال لعنة الوقت «ماذا بعد؟».
كبرت كثي ًرا وأنا أنكسر بثقل عباءات الضجر
والغربة من كل شيء ،أمي وأبي وأخي كانوا عو ًنا
متعبًا وكنت بالمقابل عبئًا عليهم ..تعتقد أمي أنها
تنتشلني من مللي فتبدأ بكلام يتحول لقرقعة في
معركة ..وأما أبي فكان صمته وقرقعة أمي حال
واحدة ..في حين كان أخي قريبًا لي في دفتر العائلة
فقط.
التهيت عن ضجري والغربة بالدراسة ..درست
معهد هندسة وكان مناسبًا لي لأني اقضي ساعات
في غرفتي ولوحدي أنشغل في تحبير المخططات