Page 96 - merit 38 feb 2022
P. 96
العـدد 38 94
فبراير ٢٠٢2
بترطن”. “س ُأنزلك الفجر”.
ما زلت أذكر رائحتها التي تشبه حضر العيال ليصبِّروني ،تسلَّقوا بعضهم البعض
الفلفل الأسود ،وأنفاسها اللافحة قبل حتى وصلوا إل َّي ،ثبَّتوا ذراع َّي بحبا ٍل على عارضة
سفري بيوم ،وهي تعض أذني بقسوة
البوابة العلوية ،همس لي مرقص سعيد:
استلذذتها: أنت الآن كمسيحُ ..ب ْل عليهم جمي ًعا!
“هتلف الدنيا ومش هتنسى عباسة،
ثم تواروا يصفقون لي كلما ُبلت على المارة ،وعلى
وهشوفك آخر شوفة في الرحلة”. المتو ِّجهين لصلاة العشاء بالجامع الكبير.
رحلة طويلة يا عباسة ،وما زلت عينك
يرت ُّج النعش من ضحكي إلا أن ذراع َّي يؤلمانني
تخترقني. الآن ،وبي حاجة لا أعرف منبعها للتبول بغزارة!
همت في أقاصي الأرض وأدناها ،ذق ُت
استأنف الموكب مسيره ،وأنا أنقل بصري بين
من النساء ما أتخمني حد الملل ،لم البيوت التي اختلفت ملامحها كثي ًرا؛ فجهلتها كما
تشبه رائحتها قلي ًل غير «ألوما»، جهلت ساكنيها ،إلا أنني الآن استوقفتني عيناها
تلك الأبنوسية الكينية الفارعة ،ذات
القلب المستأسد والنظرة البرية ،عملنا الخضراوان المحاطتان بإفريز من كحل ،تهدل
في المستشفى الميداني في تشاد، حاجباها لكنها ما زالت تخترقني..
التابع للمفوضية الأفريقية أطلَّ ْت «عبَّاسة» على الموكب من شرفة بناية مكونة
لشئون اللاجئين .كانت دائمة من خمسة أدوار.
الارتعاد؛ خو ًفا من هجوم وشيك
من المتمردين ،أو عند خوارها حينما نعم هي «عباسة»؛ نظراتها الن َّفاذة نفسها ،وكفها
تبلغ لذتها ،إلا أن عباسة لم ُيخلق الموشومة؛ تلك التي تح َّسستني عندما اشت َّد ْت بي
الحمى ،ولم تفلح أدوية أو وصفات في تهدئتها ،فلم
مثلها في البلاد. تجد أمي غير «عباسة» الغجرية؛ فبجعبتها دواء لكل
هربت من العينين الملتهمتين ،تعال ْت التكبيرات داء .لم تكف (عبَّاسة) عن التمتمة وهى تطلب من
أمي سط َل ماء بارد ،وتضع بعض الحبوب في فمي،
حينما أجبرت الركب على الهرولة. وتبلل يدها بالماء وتتح َّسسني .ظللت على هذه الحال
لا أعرف لم أتذكر النساء الآن؟! ليل ًة بأكملها .هدأت الحمى ،وانتابتني حمى من نوع
آخر؛ ضحكت وهى تهمس في أذني «وسخ صغير»!
عيون عباسة ،وسكر جميلة وخوار ألوما! انكمشت في نفسي ،إلا أن يديها تابعتا رحلتهما على
وبولي على المصلين! جسدي؛ بلي ٍن تارة ،وبشدة تارة أخرى .خدشت
القشرة الخشنة التي تغطي طفولتي ،ولم تتراجع
أين عملي الطيب الذي أستحضره فيهيئ لي حتى ق َّشرتها ..فف َّضتها بين يديها ،وهي تضحك
مكا ًنا يليق بي؟! وتغمز لي ،وأمي تدعو لها بالصحة والرزق الوفير!
أبنائي أي ًضا هنا يدعون لي -حم ًدا لله -ألس ُت رأيتها بعد ذلك بأسبوع في صحن الدار تقرأ
كـ(مسيح) كما قال مرقص سعيد ،الذي يبكيني الفنجان لأمي ،وتبشرها بقرب ( َع َدل) أختي،
بكل المحبة التي تسكن المروج الخضراء بقلبه؟! وبسخاء الزرع هذا العام ..نادتني قائلة“ :تعالى
قالها منذ خمسين عا ًما ،وص َّدقته؛ فهو لا يكذب
أب ًدا .طفت الأرض كمسيح لليباب ،خففت آلا ًما، أشوف لك بختك”.
فر َد ْت ِمنديلها ورمله بين ساقيها الممدودة ،ورصت
وبحثت عن الخلاص لأرواحهم ،مسحت على و َدعها بعدما همست له .لم تشغلني غمغمتها؛ إنما
رؤوس باكية بنفس اللين ،الذي مسحت به أعنا ًقا كفوفها الموشومة وعيناها المخترقتان ،حتى تصبب ُت
ونهو ًدا سمراء وشقراء ،آمنت أن إطعام الآخرين
المحبة لا يقل قداسة عن إطعامهم (الافخارسيتا)، عر ًقا وتصلَّبت ،غمز ْت وهي تقول“ :عمرك طويل
ورزقك واسع بس مش هنا ،في بلاد بعيد؛ ناسها
أدين ب ِمسوحي لمرقص ..و(أنجا مابيندو)؛ فهي
كومة من الطيبة المختلطة بالكثير من اللحم،