Page 49 - مجلة التنوير العدد الخامس
P. 49

‫لجنة الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا‬                                            ‫المجلس الأعلى للثقافة‬

‫م ّمـا يتـأّدى إلـى صهـر الـك ّل فـي بوتقـ ٍة واحـدٍة بحيـث‬                                        ‫إنهـا فكـرة جديـدة‪ .‬قبـل أواخـر القـرن الثامـن عشـر‪،‬‬
‫لا تمايـز‪ ،‬وإّنمـا هوّيـة أغلبيـة مهيمنـة‪ .‬هـو مـا ُيسـ ّميه‬                                       ‫لـم يكـن أحـد يعتقـد أن الاختلافـات بيـن البشـر لهـا‬
                                                                                                   ‫هـذا النـوع مـن الأهميـة الأخلاقيـة‪ .‬المثـل الأخلاقـي‬
               ‫تايلـور “العمـى عـن الاختلافـات”‪.‬‬

‫إ ّن مبـدأ “الاعتـ ارف” ‪ -‬الاعتـ ارف بـك ّل إنسـا ٍن‬                                               ‫القـوي الـذي تحـدث عنـه تايلـور؛ والـذي يعطـي‬
‫بغـض الّنظـر عـن أصولـه ‪ -‬يـؤدي إلـى المطالبـة‬                                                     ‫أهميـة أخلاقيـة لنـوع مـن الاتصـال الذاتـي مـن خـال‬
‫ف ـرٍد‬  ‫بومجبـمداأعـ ٍة«ا‪،‬لأبحصفـالـظةا”؛ختألافيـهالومتمطّيـالزبهـةوهبأوّيتحـقهّيـ‪.‬ةبنـاكًءّل‬      ‫تقديـم مبـدأ الأصالـة‪ :‬كل مـن أصواتنـا لديـه شـيء‬
‫علـى‬
                                                                                                                                      ‫فريـد ليقولـه‪.‬‬
‫أ ّن «سياسـة الاختـاف» إّنمـا ُبنيـت علـى مبـدأ أ ّن‬
‫لـك ّل إنسـا ٍن الحـ ّق فـي تشـكيل هوّيتـه وتحديدهـا‬                                               ‫ليـس فقـط لا ينبغـي أن أقلـب حياتـي لمتطلبـات‬
                      ‫بوصفـه فـردا وبوصفـه ثقافـ ًة‪.‬‬                                               ‫المطابقـة الخارجيـة؛ لا يمكننـي حتـى العثـور علـى‬
                                                                                                   ‫النمـوذج الـذي أعيـش بـه خـارج نفسـي‪ .‬أسـتطيع أن‬
‫فالأمـر يعـرض علـى هـذا الّنحـو‪ :‬مـا هـو متضمـن‬
‫اليـوم فـي مطلـب الاعتـ ارف إّنمـا هـو مبـدأ مسـاواة‬                                                                  ‫أجدهـا فقـط مـن الداخـل‪(((1().‬‬
‫كونّيـة شـاملة‪ ،‬وإ ّن سياسـة الاختـاف لتديـن ك ّل‬
‫أشـكال التميـز‪ ،‬ولترفـض ك ّل مواطنـة مـن الدرجـة‬                                                   ‫ويصـف تايلـور الديمق ارطيـة الليب ارليـة الحديثـة بـ‬
‫الثانيـة‪ .‬لكـن عندمـا نجـد أنفسـنا فـي خضـم سياسـة‬                                                 ‫“الديمق ارطيـة الثقافيـة فـي الجمـع”‪ ،‬حيـث مـا عدنـا‬
                                                                                                   ‫نتكلـم عـن الحداثـة فـي المفـرد‪ ،‬بـل عن”حداثـات‬
‫الك ارمـة بوصفهـا مدخـا للمسـاواة الكونيـة‪ ،‬فـإ ّن‬                                                 ‫متعـددة”‪ .‬فتتشـارك الديمق ارطيـات الغربيـة فـي‬
‫(مطالب التمّيز) يصعب توفيقها مع هذه السياسـة‪.‬‬                                                      ‫اعتمادهـا سـلة مـن المعاييـر السياسـية والقانونيـة‬
‫بالاعتـ ارف‬  ‫ليعص ـف‬  ‫الكونـ ّي‬  ‫وهكـذا فـإ ّن المطلـب‬                                             ‫وتتمايـز فـي هويتهـا الثقافيـة وانتمائهـا التاريخـي‪،‬‬
                                      ‫بالخصوصّي ـة‪.‬‬                                                ‫ولكـن هـل هـذا يعنـي أنـه لا يمكـن الفصـل بيـن‬
                                                                                                   ‫عنصـر الكونيـة وعنصـر الخصوصيـة؟ إنـه يرفـض‬
‫بهـذا نصيـر أمـام أمـٍر مفـارٍق‪ :‬بينمـا «سياسـة‬                                                    ‫الفصـل بينهمـا وإلا حـدث شـرخ فـي الهويـة كمـا‬
                                                                                                   ‫حصـل فـي الثنائيـة التـي كرسـتها الحداثـة بيـن العقـل‬
‫الك ارمـة البشـرّية» التـي ناضلـت مـن أجـل أشـكال‬                                                  ‫والطبيعـة‪ ،‬أو بيـن المنطـق والمضمـون “الجوهـر”‪،‬‬
‫عـدم التّمييـز تعمـى عـن أشـكال الاختـاف بيـن‬
‫المواطنيـن‪ ،‬ومـن جهـة أخـرى تشـّكك «سياسـة‬                                                                                ‫وبيـن المـادة والـروح‪((1(.‬‬
‫الاختـاف» فـي مفهـوم «عـدم التمييـز» بيـن‬
                                                                                                   ‫ويعتبـر تايلـور أن الحداثـة أخفقـت فـي م ارحلهـا‬
‫المواطنيـن‪ ،‬بـل تـرى أّنـه هـو نفسـه مبـدأ تمييـزّي‬                                                ‫الأولـى فـي دمـج مكتسـباتها الجديـدة‪ ،‬ووجـدت‬
‫يلغـي اختـاف المواطنيـن‪ .‬فهـو نفسـه أسـاس‬                                                          ‫المجتمعـات الحديثـة نفسـها ‪ -‬فـي العقـود الأخيـرة‬
                                                                                                   ‫‪ -‬علـى قرنـي إحـ ار ٍج‪ :‬إ ّن مقتضـى مبـدأ الك ارمـة‬
‫التّمييـز‪ .‬ومـا جـاء لأجـل إلغـاء التمييـز صـار هـو‬                                                ‫‪ -‬ك ّل الكائنـات البشـرّية تسـتحق أن تحتـرم علـى‬
‫عينـه ‪ -‬ويـا ل ّسـخرية الأقـدار! ‪ -‬مبـدأ للتمييـز‪.‬‬                                                 ‫جهـة المسـاواة بحيـث لا فـرق بيـن ك ّل البشـر ‪ -‬إّنمـا‬
                                                                                                   ‫هـو تحقيـق كونّيـة بمـا ينتـج عنـه محـو التّمايـ ازت‬
‫هـا هنـا نجـد أنفسـنا أمـام مفارقـة صارخـة‪ :‬قـد‬                                                    ‫والت ارتبيات القديمة‪ ،‬بل وك ّل الاختلافات والتباينات‪.‬‬

‫تولـدت السياسـة الثانيـة ‪ -‬سياسـة الاختـاف ‪ -‬عـن‬                                                   ‫‪(16)Charles Taylor,Ibid., p.,30.‬‬

‫سياسـة الك ارمـة‪ ،‬لكـن صـارت وكأنهـا تولـد المختلـف‬

‫‪ -‬هويـة خاصـة ‪ -‬عـن المؤتلـف‪ ،‬حقـوق مشـتركة‬

                                 ‫شـاملة كونيـة!‬

‫مـن هنـا دخـول هاتيـن السياسـتين ‪“ -‬سياسـة‬                                                         ‫(‪ ((1‬هيثم م ازحم‪“ :‬التعدد والاختلاف في الأنظمة‬
                                                                                                           ‫الليب ارلية الغربية‪ ..‬كما ي ارها تشارلز تايلر”‬

                                                                                               ‫‪49‬‬
   44   45   46   47   48   49   50   51   52   53   54