Page 77 - مجلة التنوير العدد الخامس
P. 77

‫لجنة الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا‬                  ‫المجلس الأعلى للثقافة‬

‫أتحـرك نحـوه‪ ،‬وأتحـرك نحـو مـا أ اره‪ .‬والعالـم المرئـي‬      ‫النفـس وحدهـا‪ ،‬ولا كذلـك بيـن أحـوال النفـس وأفعالهـا‬
‫وعالم مشروعاتي المتحركة عبارة عن أج ازء شاملة‬               ‫وأحـوال الجسـم وأفعالـه‪ ،‬وإنمـا يتـم – هـذا التلاقـي –‬
‫مـن الوجـود ذاتـه «‪ )41(.‬وعلـى هـذا النحـو‪ ،‬فـإن‬            ‫فـي الجسـم الـذي يشـعر والعالـم الـذي يوجـد معـه فـي‬
‫ال ُمصـور مـن خـال لوحاتـه يخلـق لنـا العالـم المرئـي‬
‫مـن جديـد‪ ،‬فتتبيـن لنـا أسـ ارره وتنكشـف معالمـه التـي‬                                    ‫وحـدة لا تنفصـم‪.‬‬

                      ‫لا تُدركهـا العيـن العاديـة‪.‬‬          ‫يقـول فـي كتابـه «المرئـي والـا مرئـي «‪« :‬إن‬
                                                            ‫العلاقـة بيـن الأشـياء وبيـن جسـمي فريـدة حت ًمـا‪،‬‬
                 ‫الصورة وفكر ما بعد الحداثة‬                 ‫فهـي التـي تجعلنـي أحياًنـا فـي الظاهـر‪ ،‬وهـي كذلـك‬
                                                            ‫التـي تدفعنـي أحياًنـا نحـو الأشـياء بحـد ذاتهـا‪ ،‬إنهـا‬
‫ُيوصـف فكـر مـا بعـد الحداثـة(‪ )42‬بأنـه فكـر جمالـي‬         ‫تلـك العلاقـة التـي تثيـر الظواهـر وتُحركهـا‪ ،‬وهـي‬
‫ُيعلـي مـن شـأن القيـم الجماليـة بوصفهـا بديـا‬              ‫كذلـك التـي توقفهـا وتدفعنـي إلـى وسـط العالـم‪)39(.‬‬
‫معاصـًار للعقلانيـة‪ ،‬ومـن الجسـد والرغبـة بديـا‬
‫للعقـل والفكـر‪ ،‬ومـن الصيـرورة والاختـاف بديـا‬              ‫لقـد أعـاد «ميرلـو بونتـي» الصلـة بيـن ال ارئـي‬
                                                            ‫والمرئـي‪ ،‬كمـا أعـاد بالمثـل الصلـة التـي قطعهـا‬
                ‫لقوانيـن الهويـة وعـدم التناقـض‪.‬‬            ‫«ديـكارت» ‪ )1650–)1596 Descartes‬بيـن‬
                                                            ‫النفـس والجسـم‪ ،‬ومـن ثـم لـم يعـد الجسـم أداة أو‬
‫لقـد أرى هـذا الفكـر أن إخـ ارج الإنسـان مـن النسـق‬         ‫وسـيلة تسـتخدمها النفـس للرؤيـة‪ ،‬وإنمـا أصبـح الأنـا‬
‫الـذي حولـه إلـى ماهيـة عقليـة مجـردة‪ ،‬يمكـن أن‬             ‫المتجسـد هـو الـذي يـرى‪ .‬ولـم تعـد الرؤيـة واحـدة‬
‫يتحقـق خـارج لغـة المنطـق وأسـوار العقـل؛ وذلـك‬             ‫مـن أفعـال الأنـا أفكـر (الديكارتـي) والتـي تتـم كلهـا‬
‫بالعـودة إلـى الفـن واللغـة‪ .‬وقـد أكـد «رولان بـارت»‬        ‫بغيـر جسـم‪ ،‬وإنمـا أصبحـت فعـا يحـدث فـي الجسـم‬
‫فـي بحثـه (بلاغـة الصـورة) أن الأحـكام الكليـة تنبثـق‬
‫غالًبـا مـن منظومـة فكريـة مكتملـة أو مـن تكوينـات‬                        ‫المنضـوي أو الموجـود فـي مـكان‪.‬‬
‫منطقيـة تدعـى الشـمول‪ ،‬ثـم تصيـر سـجينة النظـرة‬
                                                            ‫يقول‪« :‬اللغز في أن جسـمي هو في الوقت ذاته‬
            ‫المقعـرة التـي تشـكلها هـذه النظـم‪)43(.‬‬         ‫ارء ومرئـي‪ ،‬إن الجسـم الـذي ينظـر إلـى الأشـياء‬
                                                            ‫كلهـا‪ ،‬يمكنـه أي ًضـا أن ينظـر إلـى نفسـه‪ ،‬وأن‬
‫ووفًقـا لهـذا الفهـم‪ ،‬فـإن المفكـر لا بـد أن ينطلـق‬         ‫يتصـرف فيمـا يـرى عندئـذ علـى (الجانـب الآخـر)‬
‫مـن إشـكاليات جزئيـة يحـاول الإجابـة عنهـا إجابـات‬          ‫مـن قدرتـه ال ارئيـة‪ ،‬إنـه يـرى نفسـه ارئًيـا ويلمـس‬
‫جزئيـة لا تدعـى الشـمول‪ ،‬ومـن هنـا يدعـو «جيـل‬              ‫نفسـه لام ًسـا‪ ،‬فهـو مرئـي ومحسـوس بالنسـبة إلـى‬
‫دولـوز» لصـورة جديـدة للمفكـر والمثقـف‪ ،‬صـورة‬
‫أكثـر واقعيـة وأكثـر التصاًقـا بالحيـاة‪« .‬لقـد صـار‬                                             ‫نفس ـه»(‪)40‬‬
‫المثقـف – كمـا يقـول دولـوز – يتقلـب بيـن أمكنـة‬
‫نوعيـة وبيـن نقـاط فرديـة‪ ..‬وبـات قـادًار علـى أن‬           ‫ويتحـدث «ميرلـو بونتـي» عـن طبيعـة الرؤيـة‬
                                                            ‫فـي فـن التصويـر‪ ،‬فيـرى أن ال ُمصـور وحـده هـو‬
         ‫يتكلـم لغـة الحيـاة‪ ،‬بـدل لغـة الحـق»‪)44(.‬‬         ‫الـذي ُيـدرك العالـم‪ ،‬ذلـك لأنـه – بنظرتـه وبعمـل‬
                                                            ‫يـده – يحـول العالـم إلـى مجموعـة مـن اللوحـات‪،‬‬
‫في هذا السياق يرى «فوكو» أن كل نص فلسفي‬                     ‫وإد ارك العالـم عـن طريـق رؤيـة ال ُمصـور تفضـي‬
‫عليـه أن يعطيـك –فـي نهايـة المطـاف – معنـى‬                 ‫إلـى الإقـ ارر بـأن هنـاك ارتبا ًطـا وثيًقـا بيـن الرؤيـة‬
‫الحيـاة والمـوت‪ ،‬ويقـول لـك‪ :‬هـل الله موجـود أم‬             ‫والحركـة‪« .‬فأنـا – كمـا يقـول ميرلـو بونتـي– أرى مـا‬
‫لا؟ ومـا هـي الحريـة؟ ومـا ينبغـي عملـه فـي الحيـاة‬

  ‫السياسـية؟ وكيـف تتصـرف مـع الآخريـن؟»(‪)45‬‬

‫انحـاز «فوكـو» إلـى ط ارئـق اكتشـاف البنيـة‬

                                                        ‫‪77‬‬
   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81   82