Page 88 - Jj
P. 88

‫العـدد ‪35‬‬   ‫‪86‬‬

                                                         ‫نوفمبر ‪٢٠٢1‬‬

‫قريبة بقدر تباشير الربيع لكنّها لا ُت َطال»‪ .‬مع ذلك‪،‬‬     ‫في أجسادنا يوجد في الدماغ‪ .‬الدماغ كربان السفينة‬
  ‫وجدتني عند نهاية ذلك اللقاء أذكر شيئًا آخر‪ ،‬عن‬           ‫الغارقة‪ .‬آخر َمن يغادر»‪ .‬كيف حدث يا صالح أن‬
  ‫أرقام الهاتف‪ .‬وقد قلت ُم َع ِّض ًدا حصون جزيرتي‬          ‫كان دماغك أول من ُيغادر؟ كنت تقول كما لو أ ّنك‬
 ‫ضد موج فوضاه‪« :‬حاول أن تهاتفني أو ًل‪ ،‬صال َح‬                ‫نبي جبران خليل جبران‪ :‬إن السعادة توجد في‬
  ‫صديقي»‪ .‬فقط‪ ،‬لو أنني كنت أعلم لحظتها أن ذلك‬             ‫قلوبنا‪ .‬وهذا يشبه قول أحدهم لك وأنت في الكوفة‬
                                                             ‫إن ما أتي َت للبحث عنه هنا في هذه الأصقاع قد‬
                          ‫سيكون آخر لقاء بيننا؟‬           ‫تركته خلفك هناك في بسطام»‪ .‬بدا كما لو أن خي ًطا‬
 ‫كان رسخ لدي أنني بدأت أعتاد على هيئته الجديدة‬                ‫من الدموع أخذ يحيط بعينيه المطبقتين‪ .‬لاح ًقا‪،‬‬

     ‫المتداعية كأركان بيت ربما آلت قريبًا للسقوط‪،‬‬        ‫أدركت من إحدى الممرضات أنهم ظلوا يبللون عينيه‬
                      ‫عندما تناهى صوت أدوين‪:‬‬                                    ‫بسائل ُمر ِّط ٍب من آن لآن‪.‬‬

          ‫«وقت الراحة ينقضي سري ًعا‪ ،‬يا ماجد»‪.‬‬                ‫ما قد أذكره الآن دون غيره أ ّنه طلب مني عند‬
     ‫أدوين هذا ثعلب ماكر ج ًّدا في مثل هذه الأمور‪.‬‬           ‫نهاية لقائنا ذاك قرب بوابة المستشفى أن نكون‬
   ‫يضيف هكذا إلى أوقات الراحة دقائق فوق ما قد‬             ‫على اتصال في «الأيام المقبلة»‪ .‬تحقق هذا التواصل‬
 ‫هو مقرر‪ .‬كانت الضحكة البلهاء قارب نجاة أدوين‬            ‫كما ترون أثناء غيبوبته تلك الممتدة كما ليل الأرامل‬
 ‫إذا ما حدث وواجهنا أحد أولئك الرؤساء في العمل‪.‬‬               ‫الطويل‪« .‬نحن ح ًّقا في حاجة يا صالح إلى هذه‬
     ‫«هههههههه‪ ..‬هيءهيء»‪ .‬على أي حال‪ ،‬واصلنا‬                 ‫اللقاءات»‪ .‬ما لبثت أن أضفت بلوع ِة كا ِت ٍب من ِف ٍّي‬
‫هبوط درجات السلّم القليلة تلك المنحدرة من شارع‬
 ‫الكينزواي متجهين إلى عملنا في تلك الطوابق أسفل‬                ‫حتى النخاع‪« :‬الكتابة تذبل دون ماء كلام‪ ،‬يا‬
  ‫الأرض‪ .‬كان صدى تشوقات صالح الطيب لقراءة‬                     ‫صالح»؟ لعل كلانا أنا وهو ظ ّل يتجنّب طوي ًل‬
   ‫ما قد ُكتِ َب في الوطن أثناء غيابنا الطويل الممتد لا‬    ‫الاعتراف علنًا حتى لنفسه أن الشغف بالكتابة لم‬
  ‫يزال يتردد في أذن َّي‪« :‬ما جودة ما ُيكتب هناك‪ ،‬يا‬      ‫يعد حيًّا في أعماقنا بالعنفوان القديم‪ .‬كانت المعطيات‬
  ‫ماجد»؟ لقد رحل صالح الطيب بعد مضي أسابيع‬                   ‫لا تني تشير إلى احتضار ذلك الشغف بالكتابة‬
 ‫قليلة وفي نفسه شيء من حتّى‪ .‬تلك ثلاثون دقيقة‬               ‫والحوار عنها‪ ،‬في ظ ّل تصاعد وتيرة واقع مغاير‬
‫وربما أكثر لوداع أبدي لا تلا ٍق هناك بعده‪ .‬قال‪« :‬لا‬
 ‫ب ّد يا ماجد صديقي أن أسماء عديدة قد ظهرت على‬                                             ‫لغو ًّيا وثقافيًّا‪.‬‬
‫الساحة الثقافية‪ ،‬في أثناء غيابنا هذا»؟ قلت‪« :‬وغيابنا‬        ‫لا بل الشغف لا يزال هناك‪ .‬أو للدقة لا ب ّد له أن‬
   ‫كثير يا صالح»! ابتسم‪ .‬لعله أدرك عبر حدس ما‬                ‫يظ ّل كما الهواء لمواصلة العيش‪ .‬ذلك أن تقارب‬
 ‫أ ّنه لن يكون بوسعه تف ّحص مدى ما تتمتع به تلك‬
  ‫الأسماء من جودة‪ .‬قلت معتذ ًرا من حديثنا باللغة‬                 ‫اللقاءات وتعددها بيننا نحن جمهرة «الن ّقاد‬
‫العربية في حضوره‪« :‬ذلك صديق قديم‪ ،‬يا أدوين»‪.‬‬              ‫والأدباء» قد يبقي على أمل عودة الشغف إلى عهده‬
‫كما لو أ ّن أسى ما خالط صوتي‪ .‬مع ذلك‪ ،‬لم يخطر‬
    ‫لي أن الأسوأ الغائب لا محالة قادم على الطريق!‬             ‫ذاك وقد تحول منذ مدة على ما بدا إلى محض‬
    ‫سألتني أمل زوجته وأ ّم ولديه ضياء وبهاء بعد‬           ‫رغبة أخرى مغلّفة بالشجن‪ ،‬أو الحنين‪ ،‬وقد علمنا‬
 ‫مضي أكثر من أسبوع على سقطته بالسكتة القلبية‬
                                                              ‫أ ّن هذا النزوع العميق للتشبث بأسباب الكتابة‬
                       ‫أن أترجم لها «كل شيء»‪.‬‬              ‫كموقف من العدم ومبرر للحياة قد يتع ّذر تحققه‬
                                          ‫قالت‪:‬‬             ‫عمليًّا إزاء تفاقم حالة اللا استقرار وعنف القوى‬
                                                           ‫«المُ َز ْع ِز َعة» تلك في وضعية المنفى نفسه‪ .‬وقد ظ ّل‬
               ‫«أنت تعلم كم يعني لي صالح هذا»!‬            ‫يحدث ذلك التباعد بيننا هكذا قس ًرا وباطراد‪ .‬كذلك‬
                                         ‫وبك ْت‪.‬‬            ‫بدا كلانا أنا وصالح وا ٍع هناك في العمق بحقيقة‬
                                                             ‫أخرى عن طبيعة هذا التيه الذي يدعى «المنفى»‪.‬‬
‫كان طبيب تعود جذوره إلى مكان ما في وسط آسيا‬              ‫تلك الحقيقة التي أشار إليها إدوارد سعيد‪ ،‬نق ًل عن‬
‫وكان شا ًّبا بوجه راهب طيب عجوز قد أجلسنا م ًعا‬            ‫والاس ستيفنس‪ ،‬ومفادها يتلّخص في كون المنفى‬
                                                           ‫« َعق ُل شتاء» تكون فيه «أنفاس الصيف والخريف‬
   83   84   85   86   87   88   89   90   91   92   93