Page 85 - Jj
P. 85
83 إبداع ومبدعون
قصــة
ذاكرتي من تلك الليالي الكثير .ما تبقى لم يكن في المرة بلغتنا الأ ّم ،تركنا أدوين كي يواصل وحده
معظمه سوى ظلال .لك َّن شيئًا ضمن تلك الأشياء ما قد بدا لي الحلم ذاك بامتلاك المال .شأنه في هذا
القليلة بقي محتف ًظا مع مرور الوقت بنفس طزاجته شأن أي فلبيني حاذق آخر .لكن «أن تحلم بالغنى
أو الثراء الفاحش في بلاد كهذه البلاد لهو محض
الأولى .صو ُت صالح يخاطب زوجته في نهاية
سهرة: وهم» .قد يتحقق الأمر كما ضربة ح ٍّظ عابرة
لحواجز «الرق الحديث» المرسومة بدق ِة ومك ِر
«إلينا (يا أمل) باللحمة وفرح الكوارع»؟! حاخام .لم يكن المال على أي حال بالنسبة لصالح
قصة كفاح صالح المستميت ذاك لأجل الحصول الطيب عهدي به سوى وسيلة لا ب ّد منها لجلب
بعض أفراح الحياة الصغيرة ،كما وجبة لحم ،إلى
على لحمة قصة متجذرة عمي ًقا في ذلك المزيج ما يدعونه «المائدة» .طعام وشراب ومأوى ونافذة
السحري من الحقيقة والخيال. ومقعد وطاولة للكتابة .ذلك ج ّل ما كان يطمح إليه.
كان جسد صالح على فراش موته يحكي ببراعة
قصة ربما بدأت أحداثها قبل ميلاده .كما لو أن عن جملة الوقائع التي قد ينطوي عليها التاريخ
جا ًّنا مسل ًما بقي يهمس له الشهر الأخير من حمل العريق للفقر ،أو المعاناة .وهو على الفراش ذاك
نفسه ،أقبلت إلى المكان المخصص للز َّوار خارج
أ ّمه به« :سيكون قلي ًل نصيبك ذاك يا صالح من قسم «العناية الفائقة» ،فاطمة ،إحدى صديقات
اللحمة .نحو المائتي خرو ًفا .ليس بوسع أي حيلة أمل« ،زوجة صالح على الورق» .إن تسألني أنت،
في هذا الكون الوسيع قاطبة بقادرة على زيادة ما فأنا لا أدري بالضبط كيف استق ّرت علاقتهما
هو مق ّدر .لن تنال نصيبك هذا بالتساوي .وهذا ما على ذلك النوع من «التباعد» ،بحيث غدا كل منهما
يزيد الحسرة .تما ًما كمن ُيلقى في النهر ساع ًة بعد يقطن منذ مدة في مكان مختلف .لك ّن صالح هذا
طول جفاف قبل أن يحمل الماء في ذاكرته ويتق ّدم بدا لي دائ ًما وعلى الرغم من صرامته الباد ّية تلك
ماضيًا من مفازة إلى مفازة بأمل العثور مجد ًدا على في نقد النصوص وص ًفا وتحلي ًل أكثر وداعة وأق ّل
شجاعة من أن يلتقط كلمة مثل «الطلاق» ،ويأخذ في
فردوس الماء المفقود»!
لعمري ،ستبقى قص ُة صالح هذه مع اللحمة، فحصها!
كنموذج لذلك التعارض القائم حتى النهاية ما بين كانت فاطمة في منتصف الثلاثين .بدا من ثرثرتها
أ ّنها لم تتخلّص بعد مما يدعونه في أوساط المثقفين
رغبة ما وعدم تحققها الأغلب.
ربما لهذا إلى جانب ما ينطوي عليه هذا من حسرة «آثار الصدمة الحضارية».
ما يجعل هذا النوع من التجارب عصيًّا على المحو. قالت فاطمة وهي تحاول انتزاع أمل ،من صحراء
إننا لا نتحدث هنا عن حرمان مطلق .إنما عن عزلتها الداخلية المقبضة تلك« :إن الخواجات
تلك المسألة غير القابلة طوال سنوات عمر صالح يتذكرون في مثل هذه الحالة «أح ّب الأشياء إلى قلب
المريض» .لم تقل كذلك لرهافتها «قلب الموشك على
القصير نو ًعا ما للح ّل .مسألة الإشباع! الموت» .لقد أخذ اليأس عن عودة صالح معافى يتخذ
على أن ملابسات ق ّصة صالح مع اللحمة طفت على في تلك الأيام صو ًرا عدة .كما لو أن كل نفس هناك
تتهيأ لفكرة رحيله .قالت زوجة صالح دون تفكير:
السطح على وجه الخصوص خلال حكم السادة
الرئيس الأسبق جعفر مح ّمد نميري ،كحدث مركز ّي «كان صالح الطيب هذا ،يح ّب اللحمة».
وجدتني أتذكر خط ًفا ليال ّي القاهرة تلك.
«دال» .هكذا ،يأخذني الحنين المستحيل هذا إلى أين ذهب إذن وضوح تلك الحوارات «بيننا» ،جلاء
بعث ومخاطبة صالح الطيب مرة أخرى وقد مضت مساجلات نقدية ،وألق دعاوى الحساسية الجديدة
سنوات عديدة على موته ،إلى محاولة استعارة لغته في «الفكر والأدب»؟ ُف ِج ْع ُت لما تبين أ ّنه لم يتب َق في
النقد ّية الصافية ،في وصف وتحليل النصوص
والوقائع.
وقتها ،انضم صالح على غير توقع وهو الذي كان
يعرف في الوسط الثقافي لوقت طويل بالفقير الهندي
إلى ما كان يعرف بمثقفي «الاتحاد الاشتراكي».
هناك دو ًما خيط رفيع من الصبر يبقى كما الحد