Page 89 - Jj
P. 89
87 إبداع ومبدعون
قصــة
مجمع تجاري يدعى سيتي سنتر ،وقد أنهيت للتو أنا وهي داخل غرفة جانبية تستخدم كمكتب ،من
مهام وظيفتي الأولى ،منتصف ذلك النهار .بدا لزا ًما قسم العناية الفائقة .قلت في نفسي« :لا ب ّد أننا الآن
أن أذهب بعدها إلى البيت القريب قبيل بدء مهام نمر بحذاء ما لم نكن نود رؤيته ق ُّط».
وظيفتي الأخرى .كان يسا ًرا هناك داخل قاعة تحيط صدقت مخاو ُف تلك الأيام .إذ ما لبث الطبيب أن
بها محلات الطعام في نصف قوس أشبه بفم واسع طلب مني بتهذيب ج ّم وأدب رفيع راق أن أترجم
عمال نظافة وموظفون وقت الراحة وسياسيون لها ما قد ُتع ِرض عن وطأته الجبال .وهو ينظر
متقاعدون من العالم الثالث ناهيك عن غرباء آخرين إليها ،خاطبني متاب ًعا« :أعلم أنها مهمة لا يرغب
بوجوه أضناها رهق الحنين ،أو السعي خلف ذلك فيها أحد :تصدير الأنباء السيئة» .لقد بدا جليًّا أن
شيئًا ما ُيقبِل كما قطار مندفع لا سبيل مطل ًقا إلى
الشيء المدعو «الدولار». وقفه .أخي ًرا ،قالت« :يريد إذن مني أن أمنحه الإذن
«ماجد»!
بموته»؟
هكذا ،من بين مئات الأصوات وعشرات الألسن قلت:
التي أخذت تشكل الضجة المكتومة داخل ذلك
«ذلك (أم َل يا شقيقتي) ما يطلبه هذا الطبيب» .الله
المجمع التجاري ،أخذ يتناهى إل َّي صوت صالح ،ألي ًفا وحده يعلم أ ّي س ٍّد متين ٍ وراء عين َّي أخذت تمور
خفي ًضا كعادته على الرغم من نبرة النداء ،مستوق ًفا
من خلفه كل تلك الدموع.
العهد به بمحبة سائ ًل على بعد خطوات: م ّر الآن أكثر من العقد على موت صالح.
«إزيك»؟ وأنا لا أزال أنام وأصحو ،أقوم وأقعد ،أستقبل
أُنا ًسا وأودع آخرين ،لك ّن تفاصيل آخر لقاء بيني
سألته بدوري لحظة أن استقر وميض التحايا تلك وأدوين وصالح م ًعا لا تبرح ذاكرتي .مع أنني
في عتمة الوقت الفاصل ما بين وظيفتين عن «الحال والشيء بالشيء ُيذكر لا أتذكر على وجه الدقة متى
والأحوال ،يا صالح؟ وكان صالح نفسه قد بادرني وأين وكيف ت ّم لقائي ذاك بصالح الطيب لأول مرة
في القاهرة .رأيته إذن وهو يهرول نحوي عاب ًرا
قبل مرور نحو العام قائ ًل إنه قد أخذ يعتمد في شارع الكينزواي ذي الاتجاهين ،تما ًما كما نعبر
حياته على ما أسماه «العيش بالحيلة». الشوارع بلا تقاليد معينة في بلادنا ،وقد انعكس
شيء ما من أشعة الشمس الضعيفة الغاربة على
أُف ِّكر الآن فيما إذا كانت وسائل صالح الطيب من حواف نظارته الطبية المميزة لهيئته العامة.
أجل البقاء في عالم قاس قد عطبت حينه جميعها، وقد بدا من هرولته الخفيفة تلك كما لو أن روحه
تصنع ثورتها الأخيرة على جسد لا يكاد يقوى
بينما أكاد أرى في هذه اللحظة من كتابة هذه طوي ًل على حملها .وذلك بالضبط ما أخذ ُت أدركه
المذكرات عينيه الخامدتين وقتها وهما تبحثان لاح ًقا .أشار بيده بعد أن توقف لاهثًا قبالتي إلى
بتوسل وحيرة أثارا ارتباكي ع َّما قد تركه ذلك الشرق .قال وهو بالكاد يستجمع أنفاسه اللاهثة:
المصطلح على وجهي من أثر« .ما الذي كان يفعله «كنت (يا ماجد) في الطريق لزيارة صديق ربما لا
صديقك صالح ،هناك»؟ سألتني زوجتي ليلتها على تعرفه يعمل في محطة البنزين هناك .ثم لمحتك .قلت
أدردش معاك شو ّية» .ثم كان يا ما كان من حديث
أعتاب النوم. أعقاب السجائر المتناثرة .كان آخر ما رأي ُت من
لو أن استطلا ًعا جرى بين أولئك المستهلكين شغ ًفا
بشؤون السوق لمعرفة اتجاهات الرأي والتكهن به صالح شبح اِبتسامة ،وإيماءة مودع.
«ماذا كان يفعل صالح داخل ذلك المجمع التجاري ..
..
الضخم» لما توصل أحدهم لإجابة ما قريبة من
مرامي صالح الطيب تلك .وما قد علم ُت من أسباب كنت أتسوق قبل أشهر قليلة في الطابق الأرضي من
مقدمه إلى ذلك المجمع قد كان مثي ًرا للدهشة أو
الشفقة .يا للإنسان وهو مغمور بالبهاء الذي يسبق
موته!
...
كانت المحلات داخل المجمع تغري بالشراء .كل منتج