Page 82 - Jj
P. 82

‫العـدد ‪35‬‬                            ‫‪80‬‬

                                                                ‫نوفمبر ‪٢٠٢1‬‬

‫عبد الحميد البرنس‬

‫(سوداني في كندا)‬

‫نائي ال َم َح ِّل‪َ ..‬سحيق الدار‬

 ‫هذا‪ ،‬إلا ِلا ًما‪ .‬أشعلت سيجارة‪ .‬سرعان ما جذبتني‬            ‫«الأشياء التي لا تسترعي الانتباه عادة‪ ،‬تأخذ‬
 ‫مجد ًدا‪ ،‬الأعقا ُب نفسها‪ .‬كان برفقتي أدوين‪ .‬فجأة‪،‬‬       ‫بألباب أمثالنا نحن الذين ُكتِ َب عليهم شقاء البقاء‬
                                                          ‫في بلاد الآخرين‪ ،‬حتّى أننا قد نستغرق سنوات‬
    ‫شعرت كما لو أن ق ّوة غامضة تمسك بناصيتي‬              ‫في تأ ّملها‪ ،‬إلى الدرجة التي قد تضيع معها أحيا ًنا‬
‫وبصري بإحكام وتديرهما باتجاه شارع الكينزواي‬             ‫تفاصي ُل كل ما يم ّت إلى ظاهر هذا الوجود بصلة‪.‬‬
                                                       ‫لقد كان علينا أن نتيه طوي ًل في الأصقاع‪ ،‬مش ّردين‬
  ‫أمامنا‪ .‬كان من الممكن توقع أي شيء لحظتها عدا‬          ‫دون مقدمات‪ ،‬خائفين ح ّد ال َر ْع َدة عند كل منحنى‬
     ‫رؤيته‪ .‬كذلك‪ ،‬انشق ْت الأرض عنه‪ ،‬ما إن بدأ ُت‬
                                                            ‫وشبر وحجر‪ ،‬عرض ًة عن عمد وسابق ترصد‬
 ‫التدخين هناك‪ ،‬قريبًا من إحدى بوابات المستشفى‪،‬‬            ‫للصغار وسوء الظ ّن والشجن‪ ،‬مدفوعين لِعشق‬
  ‫الذي سيشهد بعد مضي أسابيع خروج روحه في‬                ‫الظلال هذا الذي لا تخفق له الأغلب قلوب أقعدتها‬
                                                        ‫طمأنينة العيش‪ ،‬منجذبين على الدوام صوب ما لا‬
                            ‫قسم العناية الفائقة‪.‬‬      ‫ُيرى وما قد يبدو للكثيرين إذا حدث أن تو ّقفوا عنده‬
                             ‫لكأنه أقبل لوداعي‪.‬‬        ‫محض شيء أوجده الله للنسيان‪ ،‬أو نحوه‪َ ِ .‬ل إذن‬
                              ‫هذا ما أدركه الآن‪.‬‬      ‫هذا الولع المرض ّي المزمن بالمهمل والمه ّمش والقصي‬
‫قال وقد تو ّقف قبالتي إنه كان «قبل يومين يلف في‬
‫الحي» الذي أسكن أنا فيه وإنه «حسب وصفهم» لم‬                                        ‫والمهان كما قنطرة؟‬
                             ‫يتع َّرف على «بيتي»‪.‬‬          ‫ِ َل مثل هذا الولع‪ ،‬في حياة أمثالنا نحن المنفيين‬
                            ‫كان يقصد «شقتي»‪.‬‬          ‫طعام الحنين الأزل ّي‪ ،‬منذ أن غادر آدم الجنّة مكر ًها‪،‬‬
  ‫لم تهمد حرارة اللقاء به‪ ،‬حين قدمت له سيجارة‪.‬‬            ‫إلى أر ٍض لا ُتحسن معاملة الغرباء‪ ،‬حتى يحدث‬
   ‫تناولها بما بدا الفرح‪ .‬قال‪« :‬جميل أن أراك ثاني ًة‬    ‫أن يتس ّمر أحدنا مترقبًا هكذا قبيل مغيب الشمس‬
  ‫يا ماجد»‪ .‬أخذ يتف ّقد جيبي بنطاله الأماميين كمن‬
 ‫يبحث عن و ّقادة في قلب الضياع‪ ،‬أو المتاهة‪ .‬سارع‬                  ‫ليشهد فقط عود َة الطيور إلى أوكارها؟‬
  ‫أدوين وأوقدها له‪ .‬مستكم ًل ما بدأ به‪ ،‬أضاف أ ّنه‬      ‫خطر لي ذلك‪ ،‬لما وقع بصري على أعقاب السجائر‪.‬‬
  ‫كان يهم ساعتها بزيارتي‪« ،‬لولا أن وصفهم ذاك‬           ‫هذه الأعقاب التي ربما ضجر بها ع ّمال النظافة في‬
  ‫لم يكن دقي ًقا»‪ .‬ثم ابتسم كما لو أ ّنه طفل في نحو‬
                                                         ‫هذه الأنحاء فتركوها لحالها مم ّوهة بالتراب وما‬
                                       ‫السابعة‪.‬‬          ‫يراكم المناخ‪ ،‬قد أخذ ْت تحتل منذ مدة مساحة في‬
    ‫َو َم َض في ذهني كيف كنّا نرسم للغرباء خارط َة‬    ‫دماغي بحجم باريس‪ ،‬وقد كان من الممكن أن أضيع‬
 ‫الطريق إلى العناوين والاستدلال عليها على طريقته‬      ‫فيها مرا ًرا أنا كائن الذكريات‪ ،‬بينما أستعيد السيرة‬
                                                      ‫المتخيّلة لتلك الأيدي التي ألقت بها من أعقاب «هنا»‪،‬‬
                           ‫هذه‪ ،‬فيما كنّا ندعوه‪:‬‬      ‫ولا أعثر على ما ظ ّل يتراءى لعين ّي من ظاهر الوجود‬
                                        ‫الوطن!‬

           ‫«حسنًا يا هذا‪ ..‬انتبه لوصفي هذا جيّ ًدا‪:‬‬
   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86   87