Page 11 - merit 36- dec 2021
P. 11

‫إبداع ومبدعون ‪9‬‬
                         ‫رؤى نقدية‬

‫تتحول الصورة إلى أسلوب بنائي في النص‪ ،‬تك ّونه‬                                                                              ‫مكمل للفكر الاستعاري‪ ،‬ولكن بشكل مختلف‪ ،‬لم‬
‫أو تؤ ّوله أو تؤ ّسس للفكرة‪ ،‬سواء كانت ثابتة‪ ،‬أو‬                                                                            ‫يعد الاعتماد فيه على الكلمة ‪-‬مع أهميتها‪ ،-‬ولم‬
                                                                                                                            ‫يعد الاعتماد على الجملة ‪-‬مع ضرورتها‪ -‬وإنما‬
      ‫حية‪ ،‬تحفر في ذاكرة النص مفردات حياتها‪.‬‬                                                                             ‫أصبح النص صورة واحدة‪ ،‬تتجاوز مجرد التفكير‬
                                                                                                                          ‫في تصوير قاصر‪ .‬النص القرآني يمتلئ هو الآخر‬
                      ‫البلاغة ضرورة واقعية‬                                                                                ‫بالإشارات البلاغية الدالة على إمكانية الخروج من‬
                                                                                                                              ‫التصورات الثابتة‪ ،‬وقد ألمحت إلى عدد من هذه‬
‫هل يمكن للتفكير البلاغي أن يتحول عند العربي‬                                                                               ‫الإشارات في الحديث عن السياق البلاغي والمنظور‬

‫من إدراك خاص برؤية الكلمة والجملة‪ ،‬وهي تقوم‬                                                                                                                    ‫السردي‪.‬‬
                                                                                                                             ‫البلاغة الجديدة تحرر الفكر العربي من تصور‬
‫في الأصل على علاقات جزئية تبحث عن تفاصيل‬                                                                                   ‫الجزئيات الصغيرة إلى تصور عقلي وفكري يأخذ‬
                                                                                                                           ‫بيد اللغة ومستخدميها إلى آفاق أوسع من الآفاق‬
‫الموقف اللغوي‪ ،‬إلى إدراك خاص برؤية النص أو‬                                                                               ‫الجامدة التي ظلت حبيس ًة قرابة ألف عام من جمود‬
                                                                                                                          ‫البحث البلاغي‪ ،‬فلا تقتصر ظلالها على اللغة‪ ،‬بقدر‬
‫رؤية سياق مؤسس له من خلال أدوات تحيل إلى‬                                                                                     ‫ما تتعداه إلى شكل من فلسفة اللغة العربية‪ ،‬أو‬
                                                                                                                          ‫فلسفة التصور اللغوي‪ .‬وهي أي ًضا جزء من تفكير‬
‫رؤية كلية؟ هذا التساؤل يعود بالعقل العربي من‬                                                                                  ‫جديد يحول التصورات البلاغية إلى تصورات‬
                                                                                                                              ‫فلسفية‪ ،‬وبالتالي تتعدى حدود التفكير اللغوي‬
‫رؤية التفاصيل الخاصة بالسياق إلى رؤية السياق‬                                                                               ‫القاصر على الاستعمال العادي‪ ،‬لأن النظرية يجب‬
                                                                                                                             ‫أن تستند إلى تصور فلسفي قبل أن تتحول إلى‬
‫بشكل مجمل‪ ،‬وهذا بالضرورة يؤدي إلى نوع من‬                                                                                   ‫مفاهيم وبعد أن تتحول المفاهيم إلى أدوات نصية‪.‬‬
‫التفكير اللغوي والبلاغي يتصل اتصا ًل وثي ًقا بتراث‬                                                                         ‫النص في البلاغة الجديدة ينشئ السياق‪ ،‬وبالتالي‬
‫التفكير الجديد الذي جاء به الإسلام متمث ًل في‬                                                                             ‫يتحول هذا السياق من مفهوم إلى أداة‪ ،‬ومن مقام‬

                                    ‫القرآن الكريم‪.‬‬                                                                             ‫خارجي إلى مقام نصي‪ ،‬ومن رؤية مصاحبة‬
                                                                                                                          ‫للنص‪ ،‬إلى رؤية بنائية للنص‪ ،‬فمن سياق مؤسس‬
 ‫إن السياق القرآني يهتم اهتما ًما كبي ًرا بتفاصيل‬                                                                          ‫إلى سياق مك ّون‪ ،‬إلى سياق مؤ ّول‪ .‬كما أنه ينشئ‬
‫الموقف اللغوي حتى يظن لأول وهلة أن السياقات‬                                                                                ‫المنظور السردي بكل مفرداته‪ ،‬ليتحول هو الآخر‬
                                                                                                                         ‫من مجرد وجهة نظر‪ ،‬أو رؤية مادية‪ ،‬أو فكرية‪ ،‬إلى‬
‫الجزئية الخاصة بالتفكير البلاغي تعتمد على هذه‬
                                                                                                                                   ‫تصور ذهني وبنائي عام للنص الأدبي‪.‬‬
‫السياقات؛ لذلك يجب العودة بالموقف المؤسس‬                                                                                        ‫إن طموح البحث يحاول أن يثبت أن الموقف‬
                                                                                                                               ‫السردي‪ ،‬والموقف الحكائي‪ ،‬مكونان بلاغيان‬
‫للصورة الشعرية إلى ما قبل ظهور الموقف اللغوي‬                                                                               ‫مثلهما مثل السياق والمنظور‪ .‬أما الصورة فليست‬
                                                                                                                           ‫هي الصورة البيانية التي يعتمد فيها الشاعر على‬
‫كحدث مادي يمكن إدراكه أو ترجمته في مجموعة‬                                                                                ‫تبادل الصفات بين فعل حقيقي‪ ،‬وآخر غير حقيقي‪،‬‬
                                                                                                                          ‫وبينهما صفة مشتركة لا تحتل سوى رقعة لغوية‬
‫من الألفاظ والجمل الدالة‪ ،‬والبحث في مكونات هذا‬                                                                             ‫محدودة‪ ،‬فلا زمان ولا مكان ولا نسق‪ ،‬ولا حفر‬
                                                                                                                            ‫للفكرة داخل السياق النصي‪ ،‬وهذا طرح البحث‬
‫الموقف يبدأ السياق من أوله‪ ،‬حتى يمكن القول إن‬                                                                              ‫عن الصورة النسق‪ ،‬والصورة الفكرة‪ ،‬والصورة‬
                                                                                                                            ‫المنظور‪ ،‬والصورة التي تنشئ السياق‪ .‬يعني أن‬
‫المواقف البلاغية الجزئية في القرآن الكريم يمكن‬

‫ردها إلى مواقف فكرية أو عقلية أو نفسية كلية‬

‫تسهم في بناء الصورة العامة أو ترشح لها‪ ،‬فلا‬

‫يتوقف العقل العربي عند الكلمة ليبحث في بلاغتها‪،‬‬

‫أو يتجاوزها إلى الجملة ليستخرج منها سيا ًقا يدل‬

‫على موقف صغير‪ ،‬وإنما يتعدى ذلك إلى الإدراك‬

‫الكلي للمواقف المؤسسة للواقع‪ ،‬والصورة جزء منه؛‬

‫وعلى سبيل التمثيل عندما أراد النص القرآني أن‬

‫يحدث خلخلة في التفكير المنطقي لدى الإنسان آثر‬

‫أن يبدأ بالصورة الكلية‪ ،‬وهي موقف فكري في قوله‬
‫َ ِل َفيا ٍَخت ْل ِق‬
                      ‫تعالى في سورة آل عمران الآية (‪« :)190‬إِ َّن‬
                      ‫اِّلُل َّوس ِ َملا اَوْا َل ْلِتَبا َوِاب ْ»َل‪ْ .‬ر ِض َوا ْختِ َل ِف ال َلّ ْي ِل َوال َنّ َها ِر‬
‫فالخلق قيمة كلية مطلقة لا يمكن التعامل معها من‬
   6   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16