Page 12 - merit 36- dec 2021
P. 12

‫العـدد ‪36‬‬   ‫‪10‬‬

                                                     ‫ديسمبر ‪٢٠٢1‬‬

 ‫كان ذلك يعد جز ًءا من وظيفة اللغة‪ -‬وإنما يتعدى‬         ‫خلال العقل على أساس تكوين مدرك جزئي‪ ،‬أو‬
       ‫ذلك إلى خلق أطر وطرائق للتفكير الإنساني‪،‬‬        ‫صورة جزئية يمكن من خلالها النفاذ إلى الصور‬

   ‫بالإضافة إلى إحداث نوع من التشكيلات اللغوية‬            ‫الأخرى المكونة لها‪ ،‬وهذا المدرك سياق فكري‬
    ‫والدلالية التي تحول الموقف اللغوي النفعي إلى‬        ‫ينتج عد ًدا من الصور والسياقات الجزئية داخل‬
     ‫موقف جمالي تقوم البلاغة فيه بدور الزيت في‬        ‫الموقف اللغوي‪ ،‬ومن هنا يمكن قياس بقية المواقف‬
     ‫المصباح أو الروح في الجسد‪ ،‬وحتى لا يتحول‬          ‫المؤسسة للصورة باعتبارها إطا ًرا مك ِّو ًنا للتفكير‪،‬‬
  ‫التفكير الإنساني إلى نوع من المادية الجامدة التي‬
     ‫تنتج بدورها صو ًرا جارية من المشاعر‪ ،‬وإنما‬           ‫ولا يمكن أن يتحول التفكير إلى إدراك السياق‬
   ‫توجد مستويات للتفكير الواقعي يؤسس بدوره‬           ‫المؤسس لها إلا إذا تحول الموقف إلى صورة ذهنية‪،‬‬
 ‫لمستويات من التفكير البلاغي والجمالي الذي يقوم‬
 ‫على استنطاق اللغة‪ ،‬وربط علاقات الوجود بعضها‬            ‫هذا الترشيح لاستخدام العقل يصلح مدخ ًل إلى‬
   ‫البعض‪ ،‬وتأتي أحوال النفس الإنسانية على رأس‬              ‫التفكير البلاغي الجديد الذي يفترضه البحث‬
‫الطرق المؤسسة للبلاغة والمنتجة لعملية التفاعل بين‬
    ‫الإنسان وبين ما ينطق‪ ،‬وحتى لا يتحول الواقع‬        ‫باعتباره سيا ًقا مؤس ًسا لصورة كلية يمكن البحث‬
  ‫إلى صورة شائهة من مواقف نفعية يمكن للتفكير‬             ‫عنها خارج الكلمة أو الجملة الصغيرة‪ .‬وبالتالي‬
 ‫البلاغي أن يطرح سياقات نفسية وإنسانية تصلح‬               ‫يتحول البحث عن الصورة البلاغية من مجرد‬
      ‫للمنظور البلاغي الجديد الذي يطرحه البحث‪.‬‬            ‫إدراك جمالي ذاتي إلى إدراك جمالي كلي يمكن‬
‫والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الضرورة الفكرية‪:‬‬
                                                     ‫التأسيس له بموقف فكري أو عقلي أو نفسي؛ وهنا‬
              ‫هل البلاغة ضرورة واقعية للعربي؟‬           ‫تصبح الصورة طريقة من طرق التفكير النقدي‬
    ‫التفكير البلاغي بالنسبة للّغوي هو الروح الذي‬       ‫الملائم للواقع؛ هذا التأسيس ظهر جليًّا في القرآن‬
‫يتحكم بالكلام‪ ،‬فهو يطرح رؤاه من خلال تصوراته‬
     ‫الفكرية والإنسانية بشكل عام‪ ،‬كما أنه جوهر‬       ‫الكريم داعيًا المتلقي لتبني هذه الطريقة في الإدراك‪،‬‬
  ‫التفكير الجمالي الذي يحتاج إليه كل من له علاقة‬      ‫فلا يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى في سورة‬
 ‫باللغة‪ ،‬وفي اعتقادي أن الجمود البلاغي الذي ساد‬       ‫مريم الآية (‪َ ( :)4‬وا ْش َت َع َل ال َّرأْ ُس َش ْيبًا)‪ ،‬إن مجرد‬
    ‫في الأوساط النقدية العربية يرجع في جزء كبير‬        ‫الحديث عن تشبيه استعاري يجعل البياض كأنه‬
     ‫منه إلى الاعتقاد السائد أن اللغة العربية ليست‬    ‫النار التي اشتعلت‪ ،‬وإن كان هذا الإدراك جز ًءا من‬
     ‫في حاجة إلى فكر بلاغي جديد ويكفينا النظرية‬        ‫بناء الصورة لا يتماشى مع مفهوم الرؤية الكلية‬
    ‫البلاغية العربية‪ ،‬وظل التفكير اللغوي بعي ًدا كل‬
‫البعد عن الفكر البلاغي الجديد‪ ،‬مستن ًدا إلى الأدوات‬     ‫ويعد انتقا ًصا من حق السياق النفسي المؤسس‬
     ‫الكلاسيكية التي قام عليها المفهوم البلاغي في‬     ‫لهذه الصورة؛ وهذا ما جعلني أحاول إعادة النظر‬
     ‫التراث العربي‪ ،‬والتي أدت ‪-‬وما زالت تؤدي‪-‬‬          ‫في طرق التفكير البلاغية القديمة التي ربما فاقتها‬
    ‫دورها في اللغة العربية المستعملة‪ ،‬ولكن التفكير‬
‫الحديث قد تجاوزها ‪-‬من وجهة نظر النقد الأدبي‪-‬‬               ‫النصوص الأدبية الحديثة في إدراك العلاقات‬
  ‫حتى بدأت النصوص الأدبية تطرح نفسها خارج‬                   ‫الجمالية داخل الموقف اللغوي‪ .‬ولأن البلاغة‬
  ‫المفاهيم الكلاسيكية للبلاغة العربية‪ ،‬والحقيقة أنه‬    ‫تأسيس لمواقف واقعية أو نفسية أو رمزية تعتمد‬
‫لا نظرية بلاغية في التراث النقدي العربي متماسكة‬      ‫على اللغة وأدواتها‪ ،‬فهي مواقف جمالية أي ًضا تخدم‬
     ‫البنيان‪ ،‬وإنما مجموعة من التصورات النظرية‬       ‫التفكير الإنساني بشكل عام‪ ،‬فطريقة إدراك الجمال‬
  ‫والتطبيقية في علاقة اللفظ بالمعنى‪ ،‬جاءت في ثنايا‬        ‫يجب أن تتجاوز المجازات الصغيرة‪ ،‬والموقف‬
     ‫كتب عبد القاهر الجرجاني ومن يليه‪ ،‬يمكن أن‬         ‫جزء من سياق متولد عن سياق آخر ومرتبط به‪،‬‬
                                                      ‫ويولد سياقات أخرى متعددة متصلة وتنتج معان‬
                                                      ‫منسجمة في إطار الموقف اللغوي الجديد‪ ،‬ومن هذا‬
                                                         ‫المنطلق يمكن الإجابة على من يتساءل‪ :‬ما فائدة‬

                                                                         ‫البلاغة داخل الموقف اللغوي؟‬
                                                      ‫وهو سؤال تعليمي وفكري في آن؛ لأن هدف اللغة‬
                                                       ‫ليس مجرد توصيل المعنى أو فهم الدلالات ‪-‬وإن‬
   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16   17