Page 71 - merit 36- dec 2021
P. 71

‫‪69‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

 ‫كثيرة ومرهقة لنا‪ ،‬ولم نكن نملك شيئًا‪ ،‬اضطررنا‬         ‫‪ -‬البوتس لا يموت إذا أوليته قلي ًل من الرعاية‪..‬‬
  ‫في صمت لبيع البيت‪ ،‬كان أحد الوافدين إلى الحي‬      ‫أومأت صامتًا لأمي‪ ..‬أما أخوتي فلم يعنهم الحديث‬
‫قد حاول كثي ًرا مع أبي من قبل‪ ،‬وعرض عليه أماكن‬
   ‫كثيرة في أحياء أكثر رقيًّا مما نحن فيه‪ ،‬لكن أبي‬     ‫كثي ًرا‪ .‬كنت أود أن أخفف عنها‪ ،‬أعرف أن آلامها‬
   ‫كان يرفض‪ ،‬أقام الوافد مشروعات كثيرة‪ .‬وكنا‬          ‫كثيرة ومرضها يزيد ويتضخم‪ ،‬كانت تخشى أن‬
‫نرى صوره في الجرائد وعلى شاشات التليفزيونات‪،‬‬          ‫تترك هذا البيت‪ ،‬لكنها الآن تواجه الأمر بشجاعة‬
   ‫لكنه لم يترك لنا فرصة أن نستمتع ببيتنا‪ ،‬عندما‬
   ‫عرف أزمتنا المادية‪ ،‬لم يعرض شراء البيت وإنما‬                                             ‫نادرة‪..‬‬
   ‫عرض علينا مساعدة‪ ،‬على سبيل القرض‪ ،‬ولما لم‬                       ‫‪ -‬أو ربما قتل للنفس‪ :‬لست أدري‪.‬‬
  ‫يكن لدينا بدائل وافق أخوتي الكبار‪ ،‬ووافقت أمي‬         ‫اتجهت بناظري تجاه النهر‪ ،‬كانت الشرفة التي‬
                                                    ‫أطل منها في الردهة الواسعة التي اعتدنا أن نجتمع‬
                        ‫بصمتها الحزين المنكسر‪.‬‬        ‫فيها‪ ..‬عندما كنا نجتمع نجلس في أماكن متقاربة‪،‬‬
   ‫أبيع عمري وأبوكوا يصحى‪ ،‬وترجع له عافيته‪..‬‬        ‫لكن وحدي كنت أقف بجوار الشرفة‪ ،‬أطل منها على‬
                                                       ‫النهر الواسع الكبير‪ ،‬قص لنا أبي عن هذا البيت‬
                                      ‫قالت أمي‪.‬‬        ‫وعن التعديلات التي أدخلها‪ ،‬قال‪ :‬أيامكم صعبة‪،‬‬
    ‫بجوار النافذة وأنا أرقب صفحة النهر‪ ،‬وأحيا ًنا‬      ‫ربنا يكون في عونكم‪ ،‬في زمننا كنا نقدر نشتري‬
                                                      ‫بيتًا فيه شرفة على النهر‪ ،‬وقص لنا أنه بعد شراء‬
      ‫الصيادين الهواة الذين يغازلون أسماك النيل‬               ‫البيت بأسبوع أعلن الزعيم تأميم القناة‪.‬‬
   ‫بصناراتهم الصغيرة‪ ،‬أرى حكايات شيقة لهؤلاء‬          ‫‪ -‬كنت أستمع للمذياع وأنا لا أستطيع أن أحضن‬
‫الصيادين‪ ،‬والسعيد الذي يخرج بسمكة يتباهى بها‬         ‫الزعيم‪ ،‬أحببته كثي ًرا‪ ،‬رفعت صوت المذياع ووقفت‬
   ‫على أقرانه‪ ،‬أما الصيادون المحترفون الذين كانوا‬   ‫عند الشرفة المطلة على النهر ‪-‬هذه وليست غيرها‪.-‬‬
  ‫يستقلون مراكب صغيرة‪ ،‬ويعودون عند الغروب‬            ‫(وأشار بإصبعه تجاه الشرفة) ورأيت النهر‪ ،‬كنت‬
 ‫بصيدهم الوفير‪ ،‬يأتي إليهم الأهالي للشراء‪ ،‬وكان‬         ‫أشعر أن هذا النهر لي وأنى له‪ ،‬على النهر رأيت‬
  ‫والدي يتعامل مع صياد بعينه‪ ،‬يوصيه على أنواع‬            ‫صورة الزعيم ترتسم وتكبر حتى تملأ النهر‪،‬‬
                                                    ‫وهكذا استطعت أن أحضنه وأقبله من شرفتي‪ ،‬قلت‬
    ‫بعينها يحبها وأحببناها نحن معه‪ ،‬كان الصياد‬
   ‫يأتي بحمله‪ ،‬يأخذه والدي كما هو‪ ،‬وأحيا ًنا يأتي‬                     ‫له‪ :‬أنا أحبك‪ ..‬والله قلت له هذا‪..‬‬
                                                                                      ‫هكذا قال أبي‪.‬‬
      ‫بأنواع لم يطلبها والدي‪ ،‬لكن حركة الأسماك‬
   ‫وطزاجتها كانت تدفع والدي ليأخذ كل ما حمله‪،‬‬       ‫لكن شيئًا لا يدوم يا أبي‪ ،‬عندما كنت صغي ًرا وكنت‬
                                                       ‫أرى أبي يقف دائ ًما بجوار هذه الشرفة يحتسي‬
                           ‫رغم معارضة والدتي‪:‬‬         ‫الشاي‪ .‬كنت أتعلق بقدميه وأصرخ حتى يحملني‬
           ‫‪ -‬هذا كثير والسمك لازم يتاكل صابح‪.‬‬         ‫وأشاهد ما يشاهد لكني ‪-‬بالفعل‪ -‬لم أكن أشاهد‬
 ‫وبالتالي تبدأ أمي عملها ونتأهب لأكلة سمك في أي‬
                                                    ‫ما يشاهد‪ ..‬هذا ما أدركته عندما كبرت‪ ..‬كنت أحمل‬
                   ‫وقت يأتي فيه الزاد من النهر‪.‬‬     ‫كرسيًّا وأضعه بجوار النافذة لأحاول النظر منها في‬
 ‫من نفس الشرفة لمحت نادية تسير بمحاذاة النهر؛‬
  ‫سمكة جميلة رائعة ظهرت مرة واختفت‪ ،‬وشربت‬            ‫غياب أبي‪ ،‬وكنت أقيس طولي ومدى كبري‪ ،‬بمدى‬
‫العديد من أكواب النيسكافيه حتى أراها ثانية‪ ،‬لكني‬                                    ‫وصولي للنافذة‪.‬‬

    ‫لم أرها‪ ،‬وبالصدفة رأيتها مرة تصعد الأتوبيس‬        ‫الآن أقف في نفس مكان أبي‪ ،‬استبدل النيسكافيه‬
        ‫الذي أركبه‪ ،‬ولم أ ِضع الفرصة وعرفت أنها‬          ‫بالشاي! أستعيد كل ما كان‪ ،‬خاصة حينما كنا‬

   ‫جارتنا‪ ..‬وأخبرتني أنها سمعت عن الشرفة التي‬         ‫نجتمع حول أمي نخفف عنها مرض أبي‪ ،‬نستعيد‬
                                ‫نرى منها النهر‪.‬‬          ‫أيا ًما جميلة كانت تبتسم بصعوبة‪ ،‬وعينها على‬
                                                         ‫حجرة أبي‪ ،‬أشد ما آلمها هو فقده النطق‪ ،‬كانت‬
   ‫‪ -‬كنت تسيرين بجوار النهر فتملكين النهر كله‪..‬‬        ‫تفهمه بإشارة عينيه‪ ،‬ولما احتاج والدي لعمليات‬
                                       ‫قلت لها‪.‬‬

   ‫‪ -‬لكن النظر للنهر من شرفتكم لا بد أن له مذا ًقا‬
   66   67   68   69   70   71   72   73   74   75   76