Page 7 - merit 47
P. 7

‫افتتاحية ‪5‬‬

‫الهوية العربية الناتجة عن عدم نضج المحيط الذي‬                     ‫دور في حياتنا؟ والحقيقة أن مركزية السؤال‬
   ‫يحيا داخله‪ ،‬والذي يعاني من أمراض عدة على‬                   ‫عندنا تنبع من كون قضايانا العربية لا تزال تدور‬
  ‫رأسها تهافت النظام التعليمي وانهيار الخدمات‬
  ‫والتسلط السياسي والفساد الاقتصادي وتوغل‬                        ‫في مرحلة «بناء» الدولة‪ ،‬فمعظم الدول العربية‬
                                                              ‫تقوم بنيتها السياسية والاجتماعية على العشائرية‬
 ‫الجماعات الدينية بأفكارها المتطرفة التي تخاصم‬
     ‫التطور والديمقراطية وتدعو للعودة إلى زمن‬                  ‫مهما بدا من تطور واستخدام للتكنولوجيا ونقل‬
    ‫الرسالة في الصحراء العربية قبل ‪ 1400‬عام‪،‬‬                     ‫العمارة والطرق من الغرب في بعض الدول‪ ،‬أو‬
                                                               ‫تقليد نموذج الديمقراطية الغربي بوضع دساتير‬
‫ومن ناحية أخرى تضعه وسائط الاتصال في قلب‬                      ‫وإنشاء أحزاب وبرلمانات‪ ..‬إلخ‪ ،‬فهذه ليست سوى‬
    ‫المشهد الثقافي والشعري العالمي‪ ،‬حيث تتطور‬                 ‫أشكال مفرغة من مضمونها‪ ،‬لا تنجح –إلا قلي ًل‪-‬‬
                                                                ‫في حجب واقع الحكم العشائري الأحادي الذي‬
‫القصيدة بشكل كبير‪ ،‬ولم يعد ثمة مجال للخطابة‬                     ‫يعتمد على الرأي الواحد‪ ،‬وعلى المجالس العرفية‬
  ‫والمدح والذم وادعاء ما ليس موجو ًدا أو واقعيًّا!‬
                                                                                        ‫بدي ًل عن القانون‪.‬‬
    ‫الحقيقة التي يلمسها الشاعر اليوم أن قصائد‬                      ‫لذلك فإن كثيرين من المثقفين والنقاد العرب‬
 ‫درويش وأمل دنقل وأحمد مطر ومظفر النواب‪..‬‬                          ‫يرون أن للشعر دو ًرا في الحياة العامة‪ ،‬وإن‬
‫وأحمد فؤاد نجم في العامية المصرية‪ ..‬وغيرهم من‬                    ‫الانكفاء على الذات ومخاصمة القضايا الكبرى‬
‫شعراء الرفض‪ ،‬لم تح ِّسن مستوى الواقع العربي‪،‬‬                    ‫–كما ينادي ويفعل الحداثيون‪ -‬هو خيانة لروح‬
‫ولم تجعله أفضل‪ ،‬بالضبط كما لم تحسنه ادعاءات‬                    ‫الانتماء‪ ،‬وللمشاركة العضوية في بناء المجتمعات‪،‬‬
                                                                  ‫وهذه النقطة بالتحديد هي التي تعلي من قيمة‬
   ‫المتنبي قدي ًما «الخي ُل َواللي ُل والبيدا ُء تعر ُفني ‪..‬‬       ‫محمود درويش ومظفر النواب وأمل دنقل‪،‬‬
 ‫والسي ُف والرم ُح والقرطا ُس والقل ُم‪ /‬ص ِح ْب ُت في‬              ‫باعتبار أن تجاربهم الشعرية انشغلت بالهم‬
 ‫الفلوا ِت الوح َش منفر ًدا ‪ ..‬حتى تعج َب مني ال ُقو ُر‬        ‫العربي‪ ،‬وبالقضايا الكبرى مثل الحرب والهزيمة‬

    ‫والأك ُم”‪ ..‬بل لعل هذه القصائد ساهمت فيما‬                         ‫والديكتاتورية‪ ،‬وقضية فلسطين بالطبع‪.‬‬
  ‫لا نزال قابعين تحته‪ ،‬على الأقل من جهة أننا لا‬               ‫تزداد قيمة هذه الجبهة بالتأكيد مع «التفكك» الذي‬
‫نعرف أنفسنا جي ًدا‪ ،‬فإن قرأت قصيدة من الشعر‬                    ‫أصاب بعض الدول العربية بداية من عام ‪،2011‬‬
‫القديم عند أبي العلاء أو أبي نواس مث ًل‪ ،‬لا يمكنك‬             ‫والأمثلة الصارخة لذلك هي سوريا واليمن وليبيا‬
 ‫أن تستش َّف طبيعة الحياة‪ ،‬هل كانت منفتحة كما‬
   ‫تشي قصائد قيس بن الملوح‪ ،‬أم ماجنة كما في‬                     ‫والعراق‪ ،‬حيث تشظت مركزية تلك الدول بفعل‬
                                                              ‫عوامل داخلية وخارجية‪ ،‬أهمها مسألة حكم الفرد‬
          ‫قصائد أبي نواس‪ ،‬أم غير هذه وتلك؟‬
   ‫المفاجئ أن شاع ًرا بحجم محمود درويش كان‬                      ‫الأوحد المسيطر‪ ،‬وإلغاء المؤسسات أو إضعافها‬
  ‫واعيًا لمسألة “الادعاء” في الشعر الخطابي الذي‬               ‫إلى الحد الأدنى‪ ،‬بالرغم من أنها الضمانة الوحيدة‬

     ‫يأخذ قيمته من انتسابه لقضية ما‪ ،‬ومقولته‬                     ‫للتطور في جميع الملفات‪ ،‬وهو ما خلق «شتا ًتا»‬
 ‫الشهيرة ماثلة في الأذهان “أنقذونا من هذا الحب‬                   ‫جدي ًدا تمثل في هجرة كثيرين من مواطني تلك‬
  ‫القاسي»‪ ،‬وهو –ذاته‪ -‬الذي قرر أنه “من الخطأ‬                     ‫الدول إلى أوروبا وأمريكا‪ ،‬في مشهد يعلو فوق‬
  ‫الاستمرار في تدليل الشعر الفلسطيني” استنا ًدا‬               ‫مشهد الشتات الفلسطيني الذي حدث في منتصف‬
 ‫إلى القضية التي يعبر عنها ويعكسها فقط وليس‬
                                                                                         ‫القرن العشرين‪.‬‬
   ‫إلى كونه شع ًرا حقيقيًّا‪ .‬هذا الانتباه المبكر لفخ‬
 ‫إعلاء الموضوع على الشكل‪ ،‬أي إعلاء القضية على‬                     ‫أزمة الشاعر العربي الجديد‬

   ‫الشعر نفسه وجمالياته‪ ،‬هو الذي يميز محمود‬                      ‫الحقيقة أن أزمة الشاعر العربي هنا مزدوجة‪،‬‬
 ‫درويش عن أحمد مطر ومظفر النواب‪ ،‬كما يميز‬                        ‫وعميقة‪ ..‬فمن ناحية هو مغروس في قلب أزمة‬
‫شعر أمل دنقل الإنساني وسعيه لإلباس قصائده‬

                      ‫السياسية أقنعة تراثية‪.‬‬
   2   3   4   5   6   7   8   9   10   11   12