Page 48 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 48

‫العـدد ‪27‬‬  ‫‪46‬‬

                                                       ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

   ‫لاشك إذن أن حنين الحاتمي إلى الأطلال والديار‬                                           ‫تأويل شعره‪.‬‬
   ‫تلفه دائ ًما وأب ًدا هذه الغلالة من التكثيف الرمزي‬      ‫‪ -6‬الشاعر يثبت شر ًحا لديوانه دف ًعا لتعريض‬

    ‫التي تمليها بحسبه طريقة المتصوفة في التعبير‬                                             ‫الفقهاء به‪.‬‬
     ‫كما تمليها أي ًضا طبيعة تجربتهم الروحية التي‬      ‫نستضيء بملاحظة هامة لهنري كوربان في مستهل‬
 ‫ترمي إلى نشدان الخلاص والتحلل من إسار العالم‬
     ‫الدنيوي‪ /‬الأدنى وإكراهاته‪ ،‬بذا يصبح الشعر‬                                ‫تحليله لهذا الديوان‪ ،‬يقول‪:‬‬
  ‫عنده «لغة تعكس بحث الذات عن الحقيقة المطلقة‪،‬‬         ‫«لكي نفهمه دون أن نشكك في حسن نيته من خلال‬
    ‫يتضايف فيها الروحي مع المادي والقدسي مع‬
 ‫الفاني (‪ )..‬عتبة عبور نحو استشراف العالم الآخر‬          ‫نقد لاذع‪ ،‬ينبغي أن نمتلك هنا ما يمكن أن نسميه‬
    ‫المجهول»(‪ )33‬يقول ابن عربي في أحدى طللياته‪:‬‬          ‫طريقة إدراك روحاني مختص أكثر بوعي الشعر‬
                                                        ‫الغزلي‪ .‬وبدون هذا المفتاح سيكون من غير المجدي‬
                        ‫أنجد الشوق واتهم العزاء‬        ‫محاولة استغوار سر الرؤيا التي ينطوي عليها هذا‬
                          ‫فأنا ما بين نجد وتهام‬          ‫الشعر‪ .‬لا يمكننا سوى أن نتيه إذا ما نحن بحثنا‬
                          ‫وهما ضدان لن يجتمعا‬
                                                            ‫عنها كما فعلنا بخصوص وجه بياتريس لدى‬
                        ‫فشتاتي ماله الدهر نظام‬           ‫دانتي‪ :‬هل هو محسوس‪ ،‬واقعي أو مجازي؟ لأن‬
                      ‫ما صنيعي ما احتيالي دلني‬          ‫اس ًما إلهيًّا لا يمكن أن تكون موضوع تأمل إلا عبر‬
                                                       ‫صورة ملموسة محسوسة أو متخيلة تجعلها مرئية‬
                        ‫يا عذولي لا ترعني بالملام‬
                         ‫حنت العيس إلى أوطانها‬                                     ‫ظاهر ًّيا أو عقليًّا»(‪.)30‬‬
                   ‫من وجى السير حنين المستهام‬                                          ‫يقول ابن عربي‪:‬‬
                        ‫ما حياتي بعدهم إلا الفنا‬
                   ‫فعليها وعلى الصبر السلام(‪)34‬‬                              ‫درست ربوعهم وإن هواهم‬
 ‫من الشوق تبتدئ رحلة الصوفي وإلى الفناء تنتهي‪،‬‬                              ‫أب ًدا جديد بالحشا ما يدرس‬
    ‫وما بين الفناء والشوق ثمة الضياع والاغتراب‪،‬‬                               ‫هذه طلولهم وهذي الأدمع‬
‫فالشاعر تنازعه الشوق والعزاء‪ ،‬نجد وتهامة‪ ،‬العالم‬                            ‫ولذكرهم أب ًدا تذوب الأنفس‬
   ‫العلوي والعالم الدنيوي‪ ،‬تلك هي مأساة الصوفي‬                            ‫ناديت خلف ركابهم من حبهم‬
   ‫فهو أب ًدا مشدود إلى الحياة الدنيا «لإعانة الموطن‬                     ‫يا من فناه الحسن! ها أنا مفلس‬
‫لها»(‪ ،)35‬لكن الشوق للمحبة الإلهية وللوطن الأصلي‬
       ‫يجذبه إلى أعلى ليفارق الصبر وعالم الحس‪.‬‬                                 ‫مرغت خدي رقة وصبابة‬
     ‫ويمضي ابن عربي في إظهار مأساوية الوجود‬                                 ‫فبحق حق هواكم لا تؤيسوا‬
                      ‫الإنساني إزاء الزمان قائ ًل‪:‬‬                           ‫من ظل في عبراته غر ًقا وفي‬
                       ‫يا طلا ًل عند الأثيل دارسا‬                           ‫نار الأسى حر ًقا ولا يتنفس‬
                         ‫لاعبت فيه خر ًدا أوانسا‬
                    ‫بالأمس كان مؤن ًسا وضاح ًكا‬                                ‫يا موقد النار الرويدا هذه‬
               ‫واليوم أضحى موح ًشا وعابسا(‪)36‬‬                           ‫نار الصبابة شأنكم فلتقبسوا(‪)31‬‬
      ‫الطلل هنا بحسب منطق القصيدة أثر طبيعي‬             ‫ها هنا تحكي الربوع عن ماض بعيد اغتاله الزمان‪،‬‬
  ‫متبق من الطبيعة‪ /‬الأصل إعتورته ظروف الزمن‬                  ‫إنه الشباب عصر البداية الذي مضى من غير‬
 ‫فأضحى قطبًا يستنفر عناصر الإشكالية الوجودية‬              ‫رجعة‪ ،‬وبمضيه فقد الشاعر كثي ًرا من قوته التي‬
      ‫التي يروم الشاعر طرحها من خلال قصيدة‪:‬‬              ‫كانت المعين له في الرياضات والمجاهدات‪ ،‬ومن ثم‬
   ‫إشكالية طرفها الأول ماضي «مستمر» والطرف‬                 ‫فالأطلال(‪ )32‬إنما هي الأعمال‪ ،‬وعليه نكون أمام‬
                         ‫الثاني حاضر «مستمر»‪:‬‬
      ‫ماضي»مستمر» الطلل حاضر»مستمر 	»‬                                                   ‫الصورة التالية‪:‬‬
       ‫تسفر المقابلة هنا بين حالتي تضاد تعكسان‬          ‫شباب ‪ +‬قوة = مجاهدة وعمل	 أطلال دراسة‬

                              ‫لحظتين وجودتين‪:‬‬                 ‫شيخوخة ‪ +‬ضعف = هوى مقيم في الحشا	‬
 ‫الماضي = الأنس والضحك ‪ #‬الحاضر = الوحشة‬                                             ‫هوى جديد متجدد‬

                                                       ‫إذن فإحساس الشاعر بالبعد الأنطولوجي والزمني‬
                                                             ‫الذي يفصله عن مواطن البداية وعصر القوة‬

                                                          ‫وهو ما يؤسس اغترابه الذي يعكسه هذا الحنين‬
                                                            ‫الجارف‪ ،‬ناهيك عن الدمع والأسى والذل ونار‬
                                                                                               ‫الشوق‪.‬‬
   43   44   45   46   47   48   49   50   51   52   53