Page 46 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 46

‫العـدد ‪27‬‬  ‫‪44‬‬

                                                   ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

  ‫إلى الأماكن المقدسة بمكة أم القرى‪ ،‬وكأن العودة‬   ‫تفصله مسافات شاسعة عن قبر الرسول الموجود‬
‫إلى هذه الأماكن هي عودة إلى الأصل‪ ،‬بما أن أصل‬        ‫بالمشرق‪ ،‬مما ينتج عنه هذا الانفصال الوجودي‬
                                                     ‫المؤسس لاغتراب الشاعر وغربته‪ ،‬لكن سرعان‬
     ‫الإنسان هو التراب(‪( :)18‬واشتم ذاك الترب إذ‬      ‫ما يستحيل هذا الانفصال اتصا ًل ولو عبر سفر‬
   ‫ما جئته)‪ ،‬لكن ما يحول بين الشاعر وقرب أهل‬          ‫روحي‪ /‬رمزي تؤججه أشواق هذا المتيم التي‬
 ‫الأماكن المقدسة إنما هو الدهر (والدهر يفصم ما‬
    ‫أشد من العرى)‪ .‬هو الزمان دائ ًما وأب ًدا يفصل‬  ‫تحرق المسافات محاذية ركب الحجيج؛ مما يجعل‬
                                                        ‫«روحه تنفصم عن جسمه تسافر مع القافلة‬
       ‫الصوفي عن مبتغاه ويضاعف من إحساسه‬               ‫وتصاحب الركب بينما الجسم يبقى مقي ًدا إلى‬
        ‫بالاغتراب واستحالة الاتصال والعودة(‪.)19‬‬                   ‫المكان‪ ،‬إلى الأرض لا يتحرك»(‪.)16‬‬
‫إذا كانت العرب قد وقفت على الأديرة ووصفتها في‬
‫أشعارها‪ ،‬فها هو الششتري يصطنع هذا التقليد في‬        ‫نترك ابن الخطيب لنقف مع شاعر متصوف آخر‬
‫قصائده ليرمز إلى معان صوفية وراء رسوم الدير‬        ‫على أماكن‪ /‬مرابع كانت مبعث شوقه وحنينه إلى‬
                                                   ‫الأصول ومجلى اغترابه الذي يعكس انفصام ذاته‪:‬‬
                    ‫المادية ورهبانه‪ ،‬يقول‪	 	:‬‬
               ‫أيا سعد قل للقس من داخل الدير‬                       ‫للعيس شوق قادها نحو السرى‬
                                                                       ‫لما دعا أجفانها داعي الكرى‬
                   ‫أذلك نبراس أم الكأس بالخمر‬                              ‫أرخ الأزمة واتبعها إنها‬
                     ‫سرينا له خلناه نا ًرا توقدت‬
                                                                 ‫تدري الحمى النجدي مع من درى‬
                   ‫على علم حتى بدت غرة الفجر‬                         ‫حث الركاب فقد بدت سلع لنا‬
                                           ‫(‪)..‬‬
                                                               ‫وأنزل يمين الشعب من وادي القرى‬
                    ‫إلى أن أتيت الدير ألفيت فوقه‬                     ‫واشتم ذاك الترب إذا ما جئته‬
              ‫زجا ًجا ولا أدري الذي فيه لا أدري‬                        ‫تلفيه عند الشم مس ًكا أذفرا‬
            ‫بحق المسيح أصدق لنا ما الذي حوت‬
              ‫فقال لنا خمر الهوى فاكتموا سري‬                       ‫فإذا وصلت إلى العقيق فقل لهم‬
                                                                     ‫قلب المتيم في الخيام قد انبرى‬
                                           ‫(‪)..‬‬                         ‫عانق مغانيهم إذا لم تلقهم‬
                   ‫مطيتنا للمنزل الرحب صبرنا‬
                ‫على الضر إن النفع في ذلك الضر‬                      ‫واقنع فقد يجزى عن الماء الثرى‬
                  ‫ومن يقتبس نار الكليم فشرطه‬                         ‫يا أهل رامة كم أروم وصالكم‬
                ‫ولا بد ترك الأهل بالطوع والجبر‬                       ‫وأبيع فيه العمر لو ما يشترى‬
                 ‫وفي الخلع للنعلين ما قد سمعته‬                       ‫وأشد عروة قربكم بيد الرضا‬
                ‫مقام ولكن نيط بالخلق والأمر(‪)20‬‬
      ‫يتضح من خلال التضمينات الواردة في هذه‬                       ‫والدهر يفصم ما أشد من العرى‬
                                                                       ‫أه ًل وسه ًل كل ما ترضونه‬
                                                                                     ‫فلقد رضيت‬
                                                                                     ‫وما رأيتم لي‬
                                                                                          ‫أرى(‪)17‬‬
                                                                                     ‫الشاعر ينقط‬
                                                                                        ‫مقطوعته‬
                                                                                       ‫بشبكة من‬
                                                                                      ‫أفعال الأمر‬
                                                                                     ‫(أرخ الأزمة‪،‬‬
                                                                                      ‫اتبعها‪ ،‬حث‬
                                                                                    ‫الركاب‪ ،‬انزل‪،‬‬
                                                                                   ‫اشتم‪ ،‬قل لهم‪،‬‬
                                                                                   ‫عانق مغانيهم‪،‬‬
                                                                                     ‫اقنع) تترجم‬
                                                                                      ‫حنينه الآبد‬
   41   42   43   44   45   46   47   48   49   50   51