Page 11 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 11

‫إبداع ومبدعون ‪9‬‬                                          ‫شأن الانتظار‪ ،‬استهلاك الوقت الثقيل على النفس‪،‬‬
                         ‫رؤى نقدية‬                       ‫ولم يكن لدى شوقي إلا تزجية الوقت بالقراءة في‬
                                                       ‫مصدرين‪ :‬تاريخ الدول والقادة‪ ،‬ومدن الأندلس كما‬
    ‫مدن الأندلس‪ ،‬ولكنها كانت مستمدة من الصور‬             ‫صورها نفح الطيب للمقري‪ ،‬وقلائد العقيان لابن‬
‫النمطية المستقرة عن الأندلس في ذاكرته وذاكرة كل‬          ‫خاقان القرطبي‪ .‬ومن هذا المعين متح شوقي حين‬
‫العرب‪ ،‬ومما كونته القراءة من صور ذهنية متخيلة‪.‬‬            ‫كتب آثاره الشعرية وهو في برشلونة‪ ،‬وليس في‬

  ‫فقد قرأ شوقي «نفح الطيب» للمقري و»الذخيرة»‬                                ‫قرطبة أو أشبيلية أو طليطلة‪.‬‬
    ‫لابن بسام وغيرهما من المصادر التاريخية‪ ،‬هذا‬         ‫ولذلك‪ ،‬فإن “أندلسيات شوقي” كما تتداوله أقلام‬
‫فض ًل عن تعلقه بابن زيدون وولادة بنت المستكفي‪.‬‬
‫ولم تكن صورة الأندلس في شعر شوقي قبل منفاه‬                 ‫الباحثين ومؤرخي الأدب قول مرسل شائع في‬
    ‫صورة واضحة وقوية‪ .‬وإذا فتشنا عنها لم نجد‬             ‫حاجة غير قليلة إلى التدقيق والتحقيق‪ .‬وأعتقد أن‬
 ‫لها حضو ًرا إلا في قصيدة «الأندلس الجديدة» التي‬         ‫شيوع استعمال «أندلسيات شوقي» استعمال على‬
   ‫كتبها عام ‪ 1912‬بعد موقعة «أدرنة» التي أسفرت‬
‫عن هزيمة العثمانيين هزيمة ساحقة في بلاد البلقان‬             ‫سبيل الاتساع وليس على سبيل التحقيق‪ .‬فإذا‬
  ‫وعودة مقدونيا إلى أهلها‪ .‬فقد رأي شوقي سقوط‬                ‫قصدنا بهذه التسمية‪ ،‬الآثار الأدبية التي كتبها‬
  ‫مقدونيا مثل سقوط غرناطة آخر معاقل العرب في‬              ‫شوقي وهو بين آثار الأجداد متأث ًرا بعبق المكان‬
    ‫الأندلس‪ .‬فمقدونيا اليوم أخت الأندلس بالأمس‪،‬‬             ‫وما به من رموز طبيعية وبشرية‪ ،‬فإن شوقي‬
‫وما يرد من ذكر للأندلس في شعر شوقي‪ ،‬يرد على‬                  ‫لم يكتب كل آثاره الأدبية وهو بين هذه الآثار‬
                                                        ‫الأندلسية‪ .‬وإذا قصدنا بهذه التسمية مطلق الدلالة‬
        ‫معنى الأندلس الوطن المفقود‪ .‬يقول شوقي‪:‬‬           ‫على المكان في عمومه وهو أرض إسبانيا الأندلسي‬
                       ‫يا أخت أندلس عليك سلام‬           ‫منها وغير الأندلسي‪ ،‬فإن آثار شوقي توزعت على‬
                                                         ‫هذه الأماكن‪ .‬وإن كان أغلبها من نصيب برشلونة‬
                     ‫هوت الخلافة عنك والإسلام‬           ‫وحدها‪ ،‬وعلينا حين نتناول أث ًرا أدبيًّا لشوقي كتبه‬
                     ‫نزل الهلال عن السماء فليتها‬       ‫في منفاه‪ ،‬أن ندقق أين كتبه؟ وما صلته بالمكان الذي‬
                                                        ‫عاش فيه‪ ،‬وبالمكان الذي يتحدث عنه الأثر الأدبي؟‬
                        ‫طويت وعم العالمين ظلام‬         ‫وبناء على هذا فإن أندلسيات شوقي تنقسم قسمين‪:‬‬
‫كتب شوقي طيلة إقامته في برشلونة أربعة أثار هي‪:‬‬          ‫قس ًما كتبه وهو في برشلونة‪ ،‬وقس ًما كتبه وهو في‬
                                                         ‫أرض الأندلس أو وطن الأجداد المفقود‪ .‬وقد كانت‬
    ‫أرجوزة دول العرب وعظماء الإسلام وهي‪ ،‬من‬              ‫السنون الثلاث التي أمضاها شوقي في برشلونة‪،‬‬
 ‫حيث الكم‪ ،‬أكبر آثاره التي كتبها ويبلغ عدد أبياتها‬      ‫غنية بالزاد الثقافي والتاريخي الذي استخلصه من‬
                                                        ‫قراءاته عن تاريخ العرب في الأندلس‪ ،‬وعن شواهد‬
     ‫حوالي ألف وأربع مائة بيت وصدرت في كتاب‬                 ‫حضارتهم‪ .‬ولم يترك العرب في برشلونة التي‬
                    ‫مستقل عن ديوانه بعد رحيله‪.‬‬             ‫سكنوها قرابة قرن من الزمان طاب ًعا من طوابع‬
                                                         ‫فنونهم فيها‪ ،‬ولا شاه ًدا أثر ًّيا قو ًّيا مثل ما تركوه‬
‫قصيدة شوقي المعروفة باسم «أندلسية» التي كتبها‬             ‫في مدن الأندلس‪ .‬فلم يكن وجودهم في برشلونة‬
    ‫مستدعيًا نونية ابن زيدون المشهورة ويبلغ عدد‬           ‫مستق ًّرا لكثرة الاضطرابات والحروب‪ .‬وما كتبه‬
   ‫أبياتها حوالي ثمانين بيتًا أو يزيد قلي ًل من البحر‬       ‫شوقي وهو في برشلونة مستوحى من الصور‬
  ‫البسيط‪ .‬واللافت في هذه القصيدة أن شوقي ذكر‬             ‫التي تركتها القراءة في وعيه وخياله‪ ،‬ومن الصور‬
                                                           ‫النمطية عن الأندلس التي حفظتها الذاكرة‪ .‬لذلك‬
‫في مطلعها «يا نائح الطلح»‪ ،‬والنائح هو طير الحمام‪،‬‬        ‫لم تكن آثاره الأدبية التي كتبها وهو في برشلونة‬
  ‫والطلح مكان ليس في برشلونة‪ ،‬وإنما في أشبيلية‪.‬‬          ‫مستوحاة من تأثيرات الشواهد والآثار الباقية في‬
 ‫وقد يتخذ أحد الباحثين من هذا «التعبير» دلي ًل على‬
  ‫أن هذه القصيدة من آثار شوقي في أشبيلية‪ .‬وهذا‬
                                    ‫غير صحيح‪.‬‬
    ‫أما الأثر الثالث فقصيدته التي كتبها في رثاء أمه‬
    ‫التي ماتت وهو في المنفى‪ .‬وكما كتب «أندلسية»‬
  ‫مستدعيًا نونية ابن زيدون‪ ،‬كتب هذه القصيدة في‬

‫رثاء أمه مستدعيًا قصيدة المتنبي في رثاء جدته التي‬
   ‫ماتت وهو بعيد عنها‪ ،‬وتزيد أبياتها على خمسين‬
   6   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16