Page 12 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 12

‫العـدد ‪34‬‬    ‫‪10‬‬

                                                       ‫أكتوبر ‪٢٠٢1‬‬

     ‫الحوادث في وادي النيل‪ .‬ومن ثم فلا علاقة لها‬         ‫بيتًا من بحر الطويل وهي آخر ما كتب من آثار في‬
   ‫بمدن الأندلس ولا بطبيعة الأندلس‪ ،‬ولا بما تركه‬          ‫برشلونة عام ‪ .1918‬وعندما استبد الشوق بأمير‬
                                                       ‫الشعراء إلى مصر كتب إلى حافظ إبراهيم رسالة عام‬
     ‫العرب من شواهد تاريخية في هذه البلاد‪ .‬فهي‬
 ‫خارج الإطار الحضاري لبلاد الأندلس التي لم يرد‬                            ‫‪ 1917‬تضمنت ثلاثة أبيات هي‪:‬‬
                                                                          ‫يا ساكني مصر إنا لانزال على‬
   ‫لها ذكر إلا بوصفها دولة من دول العرب‪ .‬وهذه‬                             ‫عهد الوفاء ‪-‬وإن غبنا‪ -‬مقيمينا‬
 ‫الأرجوزة ‪-‬على الرغم من طولها حوالي ألف وأربع‬
‫مائة بيت‪ -‬هي من إنتاج مكوثه الطويل في برشلونة‬                                ‫هلا بعثتم لنا من ماء نهركم‬
 ‫وقضاء الوقت في قراءة التاريخ‪ ،‬وليست من وحي‬                                  ‫شيئًا نبل به أحشاء صادينا‬

   ‫أثر من الآثار في برشلونة‪ .‬ولذلك يصعب أن نعد‬                                ‫كل المناهل بعد النيل آسنة‬
‫هذه الأرجوزة أث ًرا شعر ًّيا أندلسيًّا بالمعنى الصحيح‬                         ‫ما أبعد النيل إلا عن أمانينا‬
                                                            ‫وقد رد حافظ على شوقي بأبيات مماثلة فقال‪:‬‬
    ‫لأندلسيات شوقي‪ .‬فلا يكفي أن يقيم شوقي في‬                                  ‫عجبت للنيل يدري أن بلبله‬
  ‫إحدى حواضر إسبانيا ويعرض له عارض الشعر‬                                 ‫صاد ويسقي ربا مصر ويسقينا‬
 ‫ليكون ذلك الشعر أندلسيًّا‪ .‬فالمكان وحده ليس دا ًّل‬                       ‫والله ما طاب للأصحاب مورده‬
                                                                        ‫ولا ارتضوا بعدكم من عيشه لينا‬
                           ‫على أندلسيات شوقي‪.‬‬                              ‫لم تنأ عنه وإن فارقت شاطئه‬
      ‫وإذا كانت الأرجوزة وليدة القراءة التاريخية‪،‬‬                              ‫وقد نأينا وإن كنا مقيمينا‬
        ‫وليست وليدة الانفعال بالمكان‪ ،‬فإن قصيدة‬         ‫يمكن أن نعدها مما كتب شوقي وهو في برشلونة‪.‬‬
   ‫«أندلسية» ليست وليدة المكان ولا وليدة الانفعال‬           ‫وهذه الأبيات الثلاثة ليست من قصيدة شوقي‬
  ‫به‪ ،‬وإن كانت وليدة المخزون الشعري عند شوقي‬              ‫«أندلسية» المعروفة بمعارضة ابن زيدون‪ ،‬إلا إذا‬
  ‫من جهة‪ ،‬ووليدة التماثل العاطفي والوجداني بين‬         ‫كانت دلي ًل قو ًّيا على أن شوقي كتب «أندلسية» وهو‬
    ‫شوقي والمعتمد بن عباد‪ ،‬وابن زيدون من جهة‬              ‫في برشلونة وليس في أشبيلية‪ ،‬مما يؤكد أن آثار‬
      ‫أخرى مما سوف نوضحه في حينه‪ .‬فقد كتب‬                 ‫شوقي الشعرية في برشلونة غير آثاره في قرطبة‬
 ‫شوقي هذه القصيدة في برشلونة واستدعى أماكن‬                ‫وأشبيلية وغرناطة‪ .‬ومن ثم فإن مجموع ما كتبه‬
   ‫ورمو ًزا ليست هي الأماكن في برشلونة‪ ،‬ولا هي‬            ‫شوقي وهو في برشلونة ثلاث قصائد والمساجلة‬
  ‫الرموز‪ ،‬وصور عواطف وحنينًا إلى مصر‪ ،‬ولوعة‬                  ‫الشعرية بينه وبين حافظ إبراهيم وبينه وبين‬
   ‫على أمه‪ ،‬وافتقا ًدا لأحبائه وأصدقائه‪ ،‬وغرا ًما غير‬                     ‫إسماعيل صبري‪ .‬كتب شوقي‪:‬‬
 ‫مسبوق بالنيل‪ .‬كل ذلك يؤكد أن شوقي حين كتب‬                            ‫يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا‬
 ‫هذا الأثر الشعري‪ ،‬لم يكن واق ًعا في أسر المكان ولا‬                         ‫بعد الهدوء ويهمي عن مآقينا‬
 ‫التاريخ‪ ،‬ولم تكن الأندلس حاضرة لا في خياله ولا‬                           ‫ترقرق الماء في عين السماء وما‬
 ‫في خاطره‪ ،‬وكان وعيه مو َّز ًعا بين وجودين‪ :‬الأول‬                    ‫غاض الأسى فخضبنا الأرض باكينا‬
 ‫وجوده المادي مع زوجه وأولاده بعي ًدا عن الوطن‪،‬‬                            ‫ويرد إسماعيل صبري بقوله‪:‬‬
    ‫والثاني وجوده العاطفي والعقلي الذي لم يفارق‬                             ‫يا آل ودي عودوا لا عدمتكم‬
 ‫الوطن وإن بعد عنه‪ .‬وهو الوجود الفعلي الذي أثمر‬                         ‫وشاهدوا ويحكم فعل النوى فينا‬
 ‫هذه القصيدة النونية‪ ،‬كما أثمر قصيدته التي كتبها‬                          ‫يا نسمة ضمخت أذيالها سح ًرا‬
  ‫في رثاء أمه مستحض ًرا المتنبي الذي كتب قصيدته‬                                ‫أزهار أندلس هبي بوادينا‬
    ‫في رثاء جدته التي ماتت من الفرح الطاغي الذي‬        ‫وهذه القصائد الثلاثة بينها أرجوزته في دول العرب‬
‫امتلكها حين علمت بقرب عودة المتنبي إليها‪ .‬فالوطن‬         ‫وعظماء الإسلام وهي ذات منحى تاريخي واضح‬
 ‫وتاريخه وصوره ورموزه ارتحل مع شوقي حيث‬                  ‫انتهجه شوقي منذ بدايته الشعرية بقصيدته كبار‬
   ‫حل‪ ،‬ولم يسكنه المكان الذي حل فيه وظل شوقي‬
     ‫مسكو ًنا بهواه القديم ووعيه المستكن في العقل‬
   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16   17